Author

الأهمية التجارية تجلب الضغوط

|


شهد التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وجارتها الجنوبية الولايات المكسيكية المتحدة "المكسيك" نموا مطردا خلال العقود الماضية. وتذكر مؤسسات البيانات الرسمية الأمريكية أن حجم التجارة بين البلدين كان في حدود 43 مليار دولار في 1985، حيث بلغت صادرات الولايات المتحدة إلى المكسيك في ذلك الوقت 14 مليار دولار تقريبا، بينما كانت وارداتها من المكسيك نحو 29 مليار دولار. وبعد عقد من الزمن ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 108 مليارات دولار تقريبا في 1995. وتضخم حجم التبادل التجاري بين البلدين حتى وصل بعد عشر سنوات إلى ما يقارب 270 مليار دولار. وواصلت التجارة البينية بين البلدين نموها حتى بلغت قيمتها 611 مليار دولار عام 2018، وذلك لقفزة صادرات المكسيك إلى 347 مليار دولار ووثبة الواردات من أمريكا إلى 265 مليار دولار.
وكانت الولايات المتحدة تحقق فائضا محدودا في بعض السنوات قبيل توقيع اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "النافتا" عام 1994. وشجع توقيع الاتفاقية المنتجين على زيادة التبادل التجاري ونقل الصناعات بين البلدين خصوصا إلى الجانب المكسيكي. وكانت صناعة السيارات والسلع الزراعية والحواسيب والأجهزة الكهربائية أكبر السلع المستفيدة من تراجع الرسوم الجمركية. ويعتقد أن الاتفاقية مكنت صناعة السيارات الأمريكية من المنافسة على المستوى العالمي من خلال توزيع مراحل الإنتاج بين البلدين ما رفع كفاءتها وزاد قدراتها التنافسية. ومن الملاحظ أن المكسيك تمتعت بفائض في التبادل التجاري بين البلدين بعد توقيع الاتفاقية حتى الوقت الحالي حسب البيانات الرسمية الأمريكية. وكانت المكسيك تعاني عجزا محدودا في التبادل التجاري مع الولايات المتحدة في 1994، لكن هذا العجز تحول إلى فائض في حدود 16 مليار دولار في 1995، وذلك في أول عام من سريان الاتفاقية. وواصل الفائض التجاري ميله لمصلحة المكسيك مرتفعا في الأعوام التالية حتى قفز إلى ما يقارب 50 مليار دولار بعد عقد من الزمن. وحافظت المكسيك على مستويات فائض تجاري مرتفع شهد بعض النمو خلال الأعوام التالية حتى وصل عام 2018 إلى ما يقارب 82 مليار دولار.
من جهة أخرى تتمتع الولايات المتحدة بفائض في تجارة الخدمات مع المكسيك يصل إلى نحو ثمانية مليارات دولار حاليا.
تحل الولايات المتحدة كأكبر شريك تجاري ومورد للاستثمار الأجنبي في المكسيك. يصل نصيب أمريكا من الصادرات المكسيكية إلى نحو 80 في المائة من إجماليها، بينما تزود أمريكا المكسيك بما يقارب نصف وارداتها. إضافة إلى ذلك تتجاوز الاستثمارات الأمريكية في المكسيك 100 مليار دولار، بينما تقل استثمارات المكسيك في أمريكا عن 20 مليار دولار. أما بالنسبة للولايات المتحدة فتحل المكسيك ثالث مصدر بعد كندا والصين، وثاني مستورد للسلع الأمريكية بعد كندا. وتلعب المكسيك دورا مهما في تزويد المستهلكين الأمريكيين ببعض المنتجات الزراعية خصوصا الفواكه والخضراوات.
وتمثل التجارة مع الولايات المتحدة ما يقارب نصف الناتج المحلي الإجمالي المكسيكي، كما تشكل الاستثمارات الأمريكية في المكسيك ما يزيد على ربع الاستثمارات الأجنبية في البلاد وتسهم في تشغيل ملايين الأيدي العاملة المكسيكية.
من جهة الجانب الأمريكي فإن التجارة مع المكسيك مهمة لكن بدرجة أقل بكثير من أهميتها للمكسيك، حيث تسهم بنحو 3 في المائة من الناتج المحلي الأمريكي، أما الاستثمارات المكسيكية في أمريكا فهي محدودة الأثر. وتدرك الولايات المتحدة الأهمية القصوى التي تلعبها أسواقها بالنسبة للصادرات المكسيكية، كما تعي أن استثماراتها تلعب دورا مصيريا في النشاط الاقتصادي المكسيكي ما يعطيها قوة ضغط هائلة وتأثيرا قويا في الجانب المكسيكي في المباحثات البينية. ولهذا يظن بعض متخذي القرار الأمريكي أن بقدرتهم إجبار المكسيك على الرضوخ للمطالب الأمريكية التجارية أو أي مطالب أخرى مهما كانت. وتفسر تلك النظرة السياسات الأمريكية الأخيرة التي أهمها التوجه لفرض رسوم جمركية إضافية في 10 حزيران (يونيو) الجاري على الواردات من المكسيك، لإجبارها على تبني إجراءات أقوى ضد المهاجرين منها وعبرها إلى الولايات المتحدة. في الجانب الآخر المكسيكي فإنه يدرك أن الأهمية التجارية للتجارة مع الولايات المتحدة تجلب ضغوطا بالغة عليه، لكنه في الوقت نفسه يملك أوراق ضغط مضادة متعلقة بالأمن والهجرة ووجود جالية أمريكية كبيرة من أصول مكسيكية ولاتينية، كما أن صناع القرار في الجانب المكسيكي يستطيعون مقاومة الضغوط الأمريكية بإثارة العواطف الوطنية. لكن أعتقد أن العقلاء في الجانبين لا يريدون إثارة أي عداوات بينهما، حيث سيخسر الجميع منها. وأبدت شرائح واسعة من المنتجين والمستهلكين الأمريكيين امتعاضها من الإجراءات التجارية المفاجئة للحكومة الأمريكية ضد المنتجات المكسيكية التي ستقود إلى التأثير السلبي في كثير من المنتجين في الولايات المتحدة خصوصا في صناعة السيارات والأجهزة الكهربائية والزيادات الكبيرة في أسعار الفواكه والخضراوات. لهذا من المرجح أن الإجراءات الأمريكية ضد المنتجات المكسيكية هي محاولة لتسريع استجابة المكسيك للمطالب الأمريكية والحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات في قضايا معينة كالهجرة لكنها لن تستمر لفترة طويلة.

إنشرها