FINANCIAL TIMES

أمريكا .. جمهورية اللحوم الحمراء والنفط

أمريكا .. جمهورية اللحوم الحمراء والنفط

أمريكا مهووسة بقصص الأصل. ويعود السبب في ذلك جزئيا إلى أن القارة يسكنها مهاجرون شردوا السكان الأصليين أو قتلوهم، فمن المغري أن يسرد المؤرخون قصة أمريكا من خلال حركة أو جماعة معينة. بداية من الأعمال الفريدة التي قام بها فريدريك جاكسون تيرنر حول ثقافة الحدود إلى كتب إدموند مورجان حول التأثير الدائم لـ "الحجاج" (مستوطنون إنجليز أوشأوا مستوطنة في بليماوث عام 1620)، تم بذل كثير من الجهد في تتبع أثر الثقافات الفرعية على طريقة تطور المجتمع الأمريكي.
في وقت كان فيه كثير من الغضب والانزعاج إزاء التأثير الكبير لبعض قطاعات الأعمال – في البداية تأثير القطاع المصرفي بعد الأزمة المالية؛ والآن وادي السيليكون - من الطبيعي أن نشهد موجة من الكتب التي تستكشف دور الصناعات القوية في تشكيل المشهد المادي والثقافي للولايات المتحدة في القرنين التاسع عشر والعشرين. هناك إضافتان جديدتان لهذا النوع الأدبي تدرسان الصناعات التي ساعدت في جعل أمريكا غنية ومزدهرة، لكنهما أيضا تحددان الأنماط البيئية والسياسية التي عادت لتنهش البلاد اليوم.
في كتاب "جمهورية اللحوم الحمراء" Red Meat Republic، يتناول جوشوا سبيشت التحول في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، الذي حول لحوم البقر من طعام يتم تناوله في المناسبات الخاصة إلى وجبة أساسية يومية، وما يعنيه ذلك بالنسبة للثقافة الأمريكية، وللسياسة، والمشهد المادي. أما كتاب "الممسوح بالزيت" Anointed with Oil من تأليف دارين دوشوك، فيتتبع قطاع النفط والغاز بداية من مراحل الاكتشاف الأولى في وقت الحرب الأهلية وصولا إلى طفرة الصخر الزيتي الحالية التي أصبحت ممكنة بفضل عملية التكسير الهيدروليكي.
قراءة هذين الكتابين معا تسلط الضوء على التوجهات الكبيرة التي أثرت على القارة بأكملها، مثل الحركة المستمرة في اتجاه الغرب للأشخاص الطموحين والمغامرين بحثا عن فرص جديدة، وصعود الشركات القوية في أواخر القرن التاسع عشر: مثل "ستاندر أويل" و"جلف" وغيرهما من الشركات التي ستصبح شركات النفط الأمريكية الكبرى من ناحية، وشركات السكك الحديدية واحتكار تعليب اللحوم التي شملت "آرمر" و"سويفت" من ناحية أخرى.
يكتب دوشوك، أستاذ مساعد في التاريخ في جامعة نوتردام، بسلاسة ويتتبع كتابه المفعم بالحيوية فترات ازدهار النفط وكساده، فيأخذنا من المدن المزدهرة القذرة ومواقع الحفر الحارقة إلى الأجنحة التنفيذية الفخمة. التقينا بمنقبين متقلبين شديدي الانفعال، وعلماء أذكياء، والبارونات اللصوص في تسعينيات القرن التاسع عشر، الذين أنشأوا أولى شركات النفط الكبرى المتكاملة اليوم وأصبحوا من رواد الأعمال الخيرية، خاصة عائلتي روكفلر وبيو.
يكتب "كان من المستحيل مقاومة قوة النفط عبر الزمن، وقدرته على تحديد شعور أمريكا بذاتها، وهدفها، ومكانتها العالمية على نطاق واسع وعميق. وضع النفط بصمته على روح أمريكا، فهو أكثر بكثير (...) من مجرد سلعة تجارية يدور حولها الاقتصاد الأمريكي ويتجمع حولها السياسيون".
يشدد الكتاب أيضا على دور الدين، خاصة الانقسام بين الأصولية العاطفية والدرامية التي حافظت على استمرار عديد من شركات الحفر المستقلة في الأوقات الجيدة والسيئة، وتأثير الهدوء والسيطرة على البروتستانتية الرئيسة التي تبناها المسؤولون التنفيذيون الذين أرادوا ترويض وتنظيم الصناعة. ربما أقصى جون دي روكفلر، صاحب شركة ستاندر أويل، عديدا من الشركات المنافسة الصغيرة، لكنه درس شخصيا تعاليم الكنيسة الدينية في مدرسة الأحد التابعة لكنيسته المعمدانية المحلية، ومول الجامعات والبعثات المسكونية. في هذه الأثناء، ألقت بعض شركات الحفر بقلوبها وأموالها خلف الحركة الإنجيلية المحافظة التي لا تزال تعكر السياسة الأمريكية اليوم.
"جمهورية اللحوم الحمراء" كتاب فاشل وعتيق - بدأ على أنه رسالة الدكتوراة لسبيشت واحتفظ بالأسلوب الأكاديمي. لكن دراسته لـ "مملكة الماشية" Cattle Kingdom توضح كيف أسهمت في إعادة تشكيل الغرب الأوسط والجنوب الغربي في الوقت الذي تم فيه طرد الأمريكيين الأصليين من المراعي الرئيسة، ونهضت المدن المزدهرة لخدمة القطعان المهاجرة، ثم سقطت بعد أن استولت السكك الحديدية على جزء متزايد من شبكة النقل.
يبدأ سبيشت، الذي يدرس التاريخ الآن في جامعة موناش في أستراليا، مع صغار المزارعين ورعاة البقر الذين يكافحون من أجل الأرض ويجدون أن أرباحهم يستولي عليها مشترو الماشية الأقوياء. فهو يتتبع هذه الصناعة وصولا إلى حظائر شيكاغو الكبرى ثم إلى جزاري بلدات الساحل الشرقي الصغيرة التي كانت تتعرض لضغوط كبيرة من قبل أربع شركات لتعبئة اللحوم.
يقول سبيشت في كتابه: "مجمع لحوم البقر كان نطاقه ممتدا على مستوى أمريكا وثوريا من حيث التأثير"، موضحا كيف استغل التحول براعة الأمريكيين، مع اختراع عربات السكك الحديدية المبردة وخطوط الإنتاج الضخم في المسالخ. كما أدى ذلك إلى توسيع سلطة الحكومة الفيدرالية من خلال إنشاء هيئة وطنية لمراقبة اللحوم. أولى التحقيقات الخاصة بمكافحة الاحتكار التي أجرتها لجنة التجارة الفيدرالية نظرت في "هوامش كبيرة على نحو غير عادي" بين سعر الماشية من الأبقار وسعر بيع اللحوم الطازجة.
يتتبع الكتابان صعود الشركات الكبرى في الفترة من أربعينيات القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين، على الرغم من التحديات التي واجهتها من منظمي النقابات والإصلاحيين التقدميين في فترة التسعينيات من القرن التاسع عشر وحتى عشرينيات القرن العشرين: ثيودور روزفلت الذي كان ينفذ تشريعات مكافحة الاحتكار، وصحافيو الفضائح مثل إيدا تاربيل وأبتون سينكلير لاحقوا كلتا الصناعتين. على الرغم من تفكيك ستاندر أويل في عام 1911، يشير دوشوك إلى أن عائلة روكفيلر أصبحت أكثر ثراءً من أي وقت مضى، لأنها احتفظت بأسهمها في الشركات الفرعية التي نشأت عن التفكيك، والتي استمرت في التكامل عموديا والازدهار.
قصة سبيشت حول كيفية استغلال شركات تعليب اللحم للعمالة غير الماهرة، وإفلاس الجزارين المحليين، واستيلائها على السلطة من السكك الحديدية تحمل تحذيرات لهذا اليوم. كتاب سنكلير "الغابة" The Jungle، الأكثر مبيعًا الذي يفضح صناعة المسالخ، ربما زاد بعض القواعد الأساسية في سلامة الأغذية ومراقبة اللحوم، التي يسعى دونالد ترمب إلى تخفيفها. لكن كان بمقدور شركات تعليب اللحوم التغلب على معظم اللوائح الأخرى من خلال أنشطة الضغط وكسب التأييد واسعة النطاق التي أبرزت فوائد اللحوم الرخيصة. بالحديث عن أسعار السلع الاستهلاكية المنخفضة والمنتجات الشعبية، انصرفت شركات المسالخ الأربع الكبرى عن التفكير في قوتها المفرطة وعن الأضرار الاجتماعية الأخرى التي تسببت فيها، تماما مثلما تفعل شركات منصات الإنترنت الكبرى اليوم. بالعودة إلى ما سبق، كانت صناعتا النفط ولحوم الأبقار مهمتين للغاية لأنماط الحياة الأمريكية ورؤية البلاد لنفسها باعتبارها أرض الخيرات والفرص. يعد كتاب دوشوك أكثر شمولا - فهو يأخذ قصة النفط الأمريكية بشكل واسع إلى أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط حتى القرن الحادي والعشرين، ويقدم حجة مقنعة بأن النفط مستمر في تشكيل السياسة الخارجية وتنظيم السياسة التنظيمية الأمريكية. هذا يجعلنا نتمنى لو أن سبيشت كان قد تحدث عن تأثير الحركة البيئية والشعبية المتزايدة للنزعة النباتية.
لم تنته أي من القصتين - الجهود المبذولة لمكافحة تغير المناخ والحرب التجارية المتنامية مع الصين تثيران عقبات أمام شركات إنتاج لحوم الأبقار وشركات النفط في آن معا. لكن إذا كان التاريخ شيئا يمكن القياس عليه، لا يستطيع المرء اعتبار الشركات الأمريكية الضخمة في سبيلها إلى الزوال. لديها وسائل للتكيف والازدهار وسط المحن.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES