Author

هل سنشهد نهاية الإنترنت كما نعرفها؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد


كانت وربما لا تزال الشبكة الأخطبوطية، الترجمة العربية الدارجة للإنترنت، واحدا من أهم رموز وتطبيقات العولمة.
لا حاجة إلى الدخول في تفاصيل ما تقدمه هذه الشبكة من خدمات، وكيف أن غيابها ولو لفترة محددة، قد يتسبب في كوارث وتبعات لا يعرف مداها إلا الله.
واليوم نحن كلنا مرتبطون سلكيا أو لاسلكيا، بواسطة الواي فاي أو من دونه، بهذه الشبكة.
بيد أن تأثيرها عارم في وجداننا وثقافتا لأنها أولا تحشرنا وثقافاتنا سويا، ومن ثم ترفع الغطاء عنا وخصوصيتا، حيث في إمكان الكل إلقاء نظرة فاحصة علينا وفي إمكاننا إلقاء نظرة فاحصة على الآخرين.
يخطئ من يقول إن الإنترنت أدت إلى انصهار الثقافات أو مكنت ثقافة محددة من إزاحة ثقافة أخرى أو اكتساحها.
كانت الإنترنت وستبقى أهم وأفضل وأروع وسيلة تواصل استنبطها الإنسان. الإنترنت أدت إلى ثورة خوارزمية مهولة وبروز شركات خوارزمية عملاقة في العقود الثلاثة الماضية، بعضها صار لنا بمنزلة المقتنيات الشخصية أو حاسة من حواس أجسامنا.
مع ذلك، حشرتنا الإنترنت مع بعضنا بعضا وضمن نطاق ميولنا وثقافاتنا أكثر من قبل. ألم تر، وفي عقر دار الإنترنت "أمريكا"، كيف يتحزب ويتشيع مناصرو ومؤيدو ميل محدد أو موقف فكري أو أيديولوجي معين ضمن مواقع خوارزمية خاصة بهم، وكيف أنهم يضعون لأنفسهم حدودا خوارزمية لا يحيدون عنها؟
وربما لا سطوة مثل سطوة الإنترنت في عالم اليوم. وكما أوردنا في هذا العمود، فإن الدولة أو المجتمع الذي يهيمن على الثورة الخوارزمية، يهيمن على العالم.
ولأن الإنترنت تشكل أساس الثورة الخوارزمية، فإن كثيرا من الدول صارت تفكر مليا في تأسيس بنى تحتية تقنية ورقمية تمنحها قدرا من الاستقلالية في إدارة شؤونها الخوارزمية.
والصناعة الخوارزمية تختلف جذريا عن الصناعة التقليدية. في إمكان دولة ما شراء عدد كبير من السيارات مثلا وإدامتها لأطول فترة ممكنة، وبعدها الانقطاع عن استيراد سيارات أخرى، كما يحدث للدول التي تقبع تحت الحصار.
ولكن ليس في إمكاننا شراء الإنترنت وتكديسه وخزنه والاستفادة منه مستقبلا بديلا للشبكة العنكبوتية العالمية؛ فهناك اليوم شركات محددة وأغلبها أمريكية تمتلك الصنبور الذي يخرج منه الإنترنت، تخرج لنا منه متى شاءت أو حتى تحرمنا منه إن أرادت.
وتمسك الشركات الخوارزمية العملاقة بزمام الأمور، ليس فقط الزبائن الذين قد يعدون بمئات الملايين أو أكثر من مليار كما هو حال "فيسبوك"، بل حتى الدول والشركات الكبيرة تقع تحت سيطرتها؛ وما يحدث لشركة هواوي الصينية خير مثال.
وتنتفض الدول والحكومات التي تترعرع هذه الشركات في كنفها، مثل الولايات المتحدة، حالما ترى أن هناك شركات أو خططا لدى الآخرين للنيل من سطوتها الخوارزمية.
هناك من المحللين من يعزو غضب الولايات المتحدة على شركة هواوي إلى الخطط الصينية الواضحة المعالم للهيمنة على ثورة الذكاء الاصطناعي في عام 2030 وليس الخلل الكبير في الميزان التجاري بين العملاقين.
وخطة الذكاء الاصطناعي 2030 الصينية لن تجعل الصين رقم واحد دون منازع في الثورة الخوارزمية والذكاء الاصطناعي، بل تجعل منها عملاقا في تزويد الإنترنت.
وإن سارت خطة الذكاء الاصطناعي 2030 الصينية حسب معديها، فإن العالم سينقسم إلى قسمين من حيث الإنترنت؛ القسم الأول يكون تحت الهيمنة الغربية "الأمريكية"، والقسم الآخر تحت الهيمنة الصينية.
ولا أظن أنه كانت هناك في التاريخ هيمنة شاملة على الآخر "دولة أو مجتمع" كالتي تفرضها حاليا الهيمنة الخوارزمية التي تفوق في تأثيرها أي احتلال عسكري.
ولهذا، كانت هناك أصوات قبل نحو عقد من الزمان تنادي بأن تكون لكل دولة في العالم حدود إنترنتية أو خوارزمية كما هو الشأن مع الحدود الدولية.
الفكرة كانت أن تمتلك كل دولة الحق في "إنترنتها" مع العناوين الخاصة بها يمكنها من السيطرة على القادم والداخل إليها كما تفعل الجمارك وشرطة الهجرة على الحدود ومنافذها.
في حينه، لم تلق الفكرة آذانا صاغية، ولكنها اليوم صارت هدفا يسعى إليه كثير من الدول.
ولم تعد اليوم فكرة أو خطة "إنترنت بلا حدود" مقبولة لدى كثير من الدول عدا دول محددة وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي ستعمل المستحيل لتحقيقها وتجعلها تحت هيمنتها، في الوقت الذي تبذل ما في وسعها للانقلاب على مبادئ العولمة وتحرير التجارة.
وإن كانت هناك دولة تملك المؤهلات العلمية والتقنية لتأسيس إنترنت خاص بها أو وضع حدود خوارزمية بموازاة الحدود الجغرافية اليوم، فهي الصين. وهناك تجارب عديدة لدى دول أخرى تأتي في مقدمتها روسيا، حيث قامت بتجربة تبدو ناجحة شغلت فيها الإنترنت الخاص بها مع جميع الخدمات، مع فصل تام عن العالم الخوارزمي حولها.
هل ستبني الدول سياجات وجدرا خوارزمية بموازاة حدودها وأسوارها الجغرافية؟ يبدو أننا في هذا الطريق سائرون، لأن الهيمنة الخوارزمية قد لا يطيقها كثير من الدول شأنها شأن الهيمنة العسكرية.

إنشرها