أخبار اقتصادية- عالمية

تفشي الفساد في مفاصل الدولة التركية .. ومصداقية الحكومة أمام الشركات على المحك

تفشي الفساد في مفاصل الدولة التركية .. ومصداقية الحكومة أمام الشركات على المحك

يثير تفشي الفساد في مفاصل الدولة التركية مخاوف متزايدة لدى الشركات الأجنبية، في وقت يقوم فيه النظام بتهميش المؤسسات المسؤولة عن المحاسبة.
يؤكد محللون مختصون بالشأن التركي استشراء الفساد والجريمة المنظمة إلى مستويات لم يعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قادرا على إنكارها.
ورغم سعي أردوغان إلى إلقاء الكرة في ملعب خصومه ومعارضيه، وتحميلهم مسؤولية تفشي الفساد في البلاد، واعتباره الفساد والجريمة المنظمة كانا وسيلة المعارضة لتحقيق الفوز في انتخابات بلدية إسطنبول، إلا أن التقارير الصحفية الدولية والمؤسسات العالمية كافة تشير إلى العكس تماما، وتحمله وحكومته وحزبه مسؤولية انتشار الفساد، الذي بات أخيرا، أحد العوامل التي أضعفت المناخ الاستثماري في البلاد، وجعلت رؤوس الأموال الدولية تغادر تركيا.
يكشف تقرير منظمة الشفافية العالمية لعام 2018 الصادر في النصف الثاني من شهر كانون الثاني (يناير) الماضي عمق الفساد في تركيا، وعدم اتخاذ الدولة أي إجراءات حقيقية للتصدي له.
التقرير الذي يصنف 180 دولة في العالم يضع الدنمارك في المركز الأول كأقل الدول فسادا، بينما تحتل تركيا المرتبة 78، إذ يشير إلى أن مستويات الفساد في تركيا في تنام في ظل قمع أردوغان المتواصل لخصومه، وانتهاكه القوانين، وإضعاف استقلالية المؤسسات، وتهميش المؤسسات المسؤولة عن المحاسبة.
ومع تفشي ظاهرة الفساد في مفاصل الدولة التركية، لم يكن أمام منظمة الشفافية الدولية غير نقل تركيا من فئة البلدان "الحرة جزئيا" إلى فئة "البلدان غير الحرة".
لم يكن تقرير منظمة الشفافية الدولية هو الوحيد الذي كشف القناع عن أخطبوط الفساد التركي، وتوغله، وتغوله في العقلية السياسية والاقتصادية الحاكمة، إذ إن مؤشر الحرية الاقتصادية ذهب أبعد من ذلك، حيث عدّ الوساطة والفساد أصبحتا ركنا من أركان الحياة اليومية وأمرا اعتياديا في تركيا.
واحتلت تركيا المركز 68 بين 180 دولة شملها التقرير، ومن بين 44 دولة موجودة في المنطقة الأوروبية تراجع مركز تركيا من 28 إلى 33 في ظل تلك الأوضاع المزرية.
وبات السؤال عن دوائر الفساد التركي سؤالا مشروعا، فما الجهات التي لا يقف تورطها عند إغماض الطرف عن الفساد، بل تعمل على توسيع نطاقه في الحياة السياسية والاقتصادية، وما مصالحها الحقيقية في ذلك؟
وتلقي الباحثة الاقتصادية والمختصة في الشأن التركي ومنطقة وسط آسيا لارين وايت بالمسؤولية مباشرة على الرئيس أردوغان عبر صمته على فساد المقربين منه وعدم تبنيه خطة حقيقية للتصدي له.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن الفساد في تركيا لا يعد وسيلة فقط لتحقيق الثراء المالي، إنما لشراء الولاء السياسي أيضا وقمع المعارضين".
وتضيف، "المحرك الرئيس للفساد لتحقيق الثراء المالي وضمان الولاء السياسي عبر شراء الذمم والضمائر، هم تلك الدائرة المقربة للغاية من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تلك المجموعة هي المتحكم الفعلي في مقدرات الدولية التركية الضخمة في المجال الاقتصادي، والموجه الحقيقي للسياسة الداخلية والخارجية، وتتمتع مجموعة الأقارب وأصدقاء العائلة بامتيازات ضخمة وصلاحيات واسعة النطاق، وإن كان أغلبها صلاحيات لا تبنى على أسس قانونية، إنما عبر قربهم من الرئيس، وإمكانية الوصول إليه والتحدث إليه، وإقناعه بعدالة ومشروعية قراراتها".
تلك المجموعة من وجهة نظر لارين وايت تتحمل المسؤولية الأولى عن الفساد واستخدامه وسيلة ابتزاز أو عقاب للخصوم، عبر غياب منافسة اقتصادية حرة، ومن ثم فإن المقربين من الرئيس يلجأون إلى من يتعاملون مع الفساد كآلية إثراء مالي ووسيلة عقابية أيضا، عبر إضعاف القدرة الاقتصادية لرجال الأعمال خصوم أردوغان بحرمانهم من المناقصات الخاصة بالمشاريع الضخمة للدولة، وفي أفضل الأحوال منحهم الفتات وفقا لشروط محددة أيضا.
تمتلك وجهة نظر لارين كثيرا من الصلابة، إذا أخذ في الحسبان قضايا الفساد التي ينظر إليها القضاء التركي، حيث إن أغلبها قضايا يرفعها مقربون من الرئيس أردوغان ضد بعض الصحف التركية التي فضحت تورطهم في قضايا فساد ضخمة.
ورفع بيرات البيرق صهر الرئيس التركي وزير المالية التركي الحالي قضية ضد صحيفة "جمهوريت" المستقلة بسبب كشفها عن استثماراته الخارجية في الفضيحة الدولية المعروفة باسم "أوراق الجنة" والمتعلقة بالملاذات الضريبية الآمنة.
وتعلق لايرين على ذلك بالقول "السلطات التركية تروج دائما بأن قضايا مكافحة الفساد مدمرة للاقتصاد التركي وللدولة وهيبتها، ومعادية للوطنية وتنال من الأمن القومي، لكنها تنسى أن فضح الصحف لفساد المقربين من الرئيس يحمي مصالح الطبقات المتوسطة والفقيرة في تركيا ويحمي المصلحة العامة".
لا ينفي كثير من المختصين وجهة نظر لارين، لكنهم يعتقدون أن دوائر الفساد التركية أكثر عمقا وتنوعا من إمكانية حصرها فقط في الدائرة المقربة من الرئيس أردوغان، رغم التساؤلات المشروعة بشأن مصدر ثروات أقارب وأصدقاء الرئيس التركي الضخمة، ومن أين جاءت.
الفساد ظاهرة واسعة الانتشار في القطاعين العام والخاص في تركيا، ومشاريع المشتريات والبناء العامة معرضة بشكل خاص للفساد، وخلال السنوات الخمس الماضية باتت الرشوة المباشرة أو محاولة الإفساد والابتزاز وغسل الأموال وإساءة استخدام المناصب جزءا راسخا في البناء السياسي – الاقتصادي التركي.
يلاحظ الدكتور كيفن سميث أستاذ النظم السياسية في عدد من الجامعات الأوروبية أن سلطة مكافحة الفساد غير فعالة في تركيا، وأن إضعاف تلك السلطة تم بشكل متعمد لمصلحة جهات نافذة في تركيا.
وحول دوائر الفساد التركية يعد الدكتور كيفن الحزب الحاكم حزب العدالة والتنمية هو الموجه الأساس لحركة الفساد في البلاد.
ويؤكد لـ"الاقتصادية"، أن الحزب وتغوله في الحياة الاقتصادية والسياسة، يتم عبر توجيهات قيادات الصفين الأول والثاني، وتختلط تغطية الفساد في تركيا برغبة أيديلوجية مبنية على أساس أن فضح الفساد يضعف الحزب وشعبيته، كما أن جزءا من عملية الثراء غير المشروع، تبرر أخلاقيا بضرورة تمكين الحزب ماليا، ومن ثم تمكنه من كسب الأنصار وأصوات المرشحين خلال الانتخابات.
بذلك يعد الدكتور كيفن سميث التداخل بين السلطة السياسية، والهيمنة الاقتصادية، وتقليص قدرات الدولة لمصلحة إعلاء شأن الحزب، يجعل الفساد ذا طابع مقنن في هيكل الدولة التركية، وهو ما أدى إلى انخفاض ثقة الشركات التركية وكبار المستثمرين باستقلال القضاء، وبقدرة الأطر القانونية على تسوية النزاعات، أو الطعن في اللوائح، نتيجة التدخلات والتعليمات السياسية بضرورة إصدار أحكام تعزز من مكانة أنصار الحزب.
ويشير عديد من التقارير الدولية والمحلية في تركية إلى أن الرشا والمدفوعات غير النظامية مقابل القرارات القضائية أمر شائع.
وازداد الأمر تدهورا بعد إقالة أكثر من ثلاثة آلاف عضو من القضاء بعد محاولة الانقلاب المزعومة عام 2016، كما تعمل السلطة السياسية برئاسة أردوغان على إثارة الفزع في صفوف القضاء التركي، حيث اتهمت الحكومة المدعين العامين الذين بدأوا تحقيقا لمكافحة الفساد مع عديد من كبار المسؤولين الحكوميين وعائلاتهم، بإساءة استخدام سلطتهم، وتم تعليق تلك القضية لاحقا.
ويضيف الدكتور كيفن أن "توقيع تركيا على اتفاقية نيويورك لعام 1958، بشأن الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها، لم يحل دون فشل الأنظمة القضائية التركية في قبول التحكيم في نزاعات الاستثمار بين المستثمرين الأجانب والدولة، وغالبا ما يتحيز القضاء التركي ضد الأجانب".
مع هذا يعتقد رجل الأعمال بورس استيورت أن تجربته الاستثمارية الفاشلة في تركيا، تؤكد له أن شبكة الفساد عميقة في الجهاز التنفيذي تحديدا دوائر الشرطة والخدمات العامة.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن الفساد في الشرطة التركية شديد الخطورة، وهي جهاز غير موثوق به، وإفلات الشرطة من العقاب ظاهرة ذائعة الانتشار في تركيا، ودائما يتم ذلك تحت ذريعة عدم كفاية الأدلة".
ويضيف "بعض استطلاعات الرأي كشفت أن نصف الأتراك يعتقدون أن ضباط الشرطة أو جميعهم فاسدون، وفي عام 2016 كشفت دراسة أن واحدا من كل 20 تركيا طلب منه ضباط الشرطة رشا".
لكن التحديات التي تواجه رجال الأعمال الأجانب للاستثمار في تركيا، لا تقف عند فساد الجهاز الأمني، بل تمتد إلى قطاع الخدمات العامة، حيث الرشا والمدفوعات غير النظامية عند التعامل وتقديم الهدايا للمسؤولين أمر شائع الانتشار، خاصة على المستوى المحلي، إذ تتم حماية البلديات التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية الحاكم بشكل عام من التدقيق من قبل سلطات تطبيق القانون والمفتشين، بينما تواجه البلديات التي تسيطر عليها الأحزاب السياسية الأخرى تمحيصا دقيقا.
وقد انعكس تفشي الفساد في أن بدء النشاط التجاري في تركيا يتطلب وقتا أقل من المتوسط الإقليمي، لكن الخطوات الإجرائية واحتياجات رأس المال أكثر بكثير من المتوسط الإقليمي.
ونتيجة شكوك عديد من المستثمرين في الدور الذي تلعبه الدائرة المقربة من الرئيس أردوغان في ترسيخ الفساد، مدعومة بهيمنة حزب العدالة والتنمية، وتواطؤ الأجهزة التنفيذية كالشرطة والخدمة المدنية، باتت الشركات لا تثق تماما بقدرة الحكومة على حماية حقوق الملكية، والقضايا المتعلقة بالممتلكات في المحاكم تمضي ببطء، وتأثير العوامل الخارجية في القرارات القضائية يزيد الأمر تعقيدا، كما أن مصادرة الملكية الخاصة تحت ذريعة الأشغال العامة والمشاريع الصناعية، باتت في نظر البعض وسيلة أخرى من وسائل الفساد عبر انتقام الحكومة من خصومها.
تشير التقارير الحكومية الرسمية في تركيا إلى أن الحكومة صادرت 850 شركة، فضلا عن ممتلكات عقارية كبيرة بدعوى صلة أصحابها بالداعية فتح الله جولن.
ويعتقد البعض أن سلوكيات الرئيس أردوغان ذاتها تعزز الفساد في تركيا، وتبعث برسائل إلى الجميع بتفهم الدولة التركية للفساد، وإغماض عينها عنه إذا كان من طرف أنصارها.
وشيد أردوغان قصره الرئاسي الجديد على أراض محمية، رغم حكم المحكمة العليا عام 2015 بعدم مشروعية البناء على تلك الأرض.
بصفة عامة فإن قطاع البناء يعد من أكثر القطاعات التي يتفشى فيها الفساد في تركيا، حيث يتم منح تصاريح غير قانونية لكبار المطورين العقاريين، وتنتشر الرشا بين المسؤولين الحكوميين والمقاولين، وعلى الرغم من افتضاح أمر عديد من المسؤولين في هذا القطاع في قضايا فساد كبيرة، فإن الحكومة تتدخل في كثير من الأحيان في تحقيقات الفساد، خاصة إذا ما مست مسؤولين في الحكومة أو الحزب الحاكم أو أبناءهم.
ويقول لـ"الاقتصادية" الدكتور ال. كرومر أستاذ الاقتصادات الناشئة في جامعة يوركشير، "ما يسهل انتشار الفساد في تركيا أن ثلث الاقتصاد التركي غير مسجل، وهذا يؤدي إلى خسائر ضريبية ضخمة، كما أن طلب الرشا عند إجراء مدفوعات ضريبية أمر شائع ومعتاد في الهيكل الاقتصادي التركي، وغالبا ما تخضع وسائل الإعلام التي تنتقد الحكومة لتحقيقات ضريبية مكثفة كنوع من العقاب، وتنافس إدارة الجمارك، إدارة الضرائب في الفساد، حيث يشتكي معظم رجال الأعمال الأتراك والأجانب على حد سواء من الإجراءات الجمركية المرهقة، وارتفاع التكاليف".
ويؤكد أن الفساد يمكن دائما مكافحته إذا كان قضية اقتصادية، أما عندما يتحول إلى موقف سياسي، يحظى بتغطية أعلى الدوائر السياسية، فإنه ينتشر ويتمكن من مفاصل الدولة، ويكون من الصعب اقتلاعه، وهذا هو جوهر مشكلة الفساد في تركيا.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من أخبار اقتصادية- عالمية