Author

بيئة «الأكسجين» .. كيف نبنيها؟

|

"الأكسجين" غاز في الطبيعة، أحاطنا الله سبحانه وتعالى به من كل جانب. هو مصدر حاسم من مصادر حياتنا، فلا حياة من دونه. وتتمثل أهميته في أنه مكون رئيس من مكونات الهواء، فهو يدخل إلى الرئتين ويسهم في تنقية الدم وتفعيل معطيات الدورة الدموية التي يطلقها القلب لتنعش أنحاء الجسم كافة وتجدد نشاطه. هو لذلك قريب من القلب وراع لمتطلبات الحياة. لكنه مع كل إمكاناته يخضع لأثر البيئة من حوله، فإن تلوثت بأكثر مما يجب، انخفض مستوى وجوده، وضاق صدر الناس، وأحبطت حيويتهم، وتأثر عملهم، وانخفض عطاؤهم.
ولعل أبرز ما يلوث الهواء كل من: ثاني أكسيد الكربون، الذي يطلقه الإنسان في الزفير، بعد تلقي الأكسجين في الشهيق، وتطلقه أيضا النباتات وكذلك الحيوانات؛ وأول أكسيد الكربون، الغاز السام الذي تبثه المركبات وينتج أيضا من كل احتراق. لكن النباتات تطلق أيضا الأكسجين في ضوء النهار؛ ويتجاوز إطلاقها له أضعاف ما تبثه من ثاني أكسيد الكربون. فبذلك ينتعش الهواء وينخفض التلوث. فالنباتات لا تتميز بأنها غذاء فقط، بل هي مصدر للأكسجين أيضا، تنقي به الهواء لتسهم بذلك في تفعيل البيئة اللازمة للحياة.
يمكن أن ننظر إلى الأكسجين كرمز "للحياة المنشودة"، وإلى "أكسيدي الكربون" كرمز لتلويثها أو إعاقتها.على هذا الأساس نجد في كثير من علاقات الناس وتعاملاتهم سلوكا إيجابيا وكأن صاحبه يطلق الأكسجين ويسهم في تفعيل الحياة التي نريد. كما نجد في كثير منها أيضا سلوكا سلبيا وكأن صاحبه يطلق "أكسيدي الكربون"، أو ربما أحدهما، ويسهم في تلويث الحياة وانحرافها عن المطلوب. فالسلوك الإيجابي يبني بيئة أكسجين تعطي الناس الراحة والسلامة، وتؤدي إلى مد أواصر الثقة والمودة والتعاون بينهم؛ والسلوك السلبي يسبب بيئة ملوثة يضيق صدر الناس بها، وتقود إلى نشر التوتر والبغضاء والنفور بينهم.
لا شك أن في البشاشة والابتسامة الصادقة ما يطلق "بيئة الأكسجين"، وأن في التجهم والعبوس ما يبث "الملوثات". وقد علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن "تبسمك في وجه أخيك صدقة"؛ كما علمنا أن "كل معروف صدقة"، وأن "من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق". وقد نقل عن أحد الصحابة قوله "ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم". وتقترن البشاشة والابتسامة بالكلمة الطيبة التي تسهم أيضا في إطلاق بيئة الأكسجين بين الناس. ففي القرآن الكريم، يقول تعالى "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن"؛ ويقول أيضا "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء".
ومع البشاشة والابتسامة والكلمة الطيبة يأتي حسن الخلق. وفي هذا المجال علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق". وهكذا نجد أن الدين الإسلامي الحنيف يريدنا أن نتحلى بالبشاشة والابتسامة وطلاقة الوجه، وأن نكون من أصحاب الكلمة الطيبة، وأن يتصف سلوكنا بحسن الخلق. ولا شك أن في كل ذلك بناء لبيئة الأكسجين التي تريح الناس وتنعشهم وتمد أواصر المودة وحسن التعامل بينهم.
وفي إطار التعامل والعلاقات بين الناس، قدمت دراسة أجرتها جامعة هارفارد Harvard، على مدى أكثر من سبعة عقود، وموضوعها "انعكاسات العلاقات الاجتماعية في حياة الإنسان"، نصيحة مهمة للناس جميعا. وتقول هذه النصيحة إن "على كل إنسان الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية وتوسيع مداها وتفعيلها وتعزيز تميزها بصفات المحبة والثقة، لأن في ذلك خير للجميع على مستوى الفرد، وعلى المستوى المهني، وخير أيضا للمجتمع كله". وتبرر الدراسة نصيحتها بالنتائج التي توصلت إليها التي تبين أن "العلاقات الاجتماعية المتميزة تعطي الفرد صحة وسعادة، وتبني للعمل المهني، من خلال الأفراد العاملين، بيئة تعاونية صحية سعيدة، تعزز الإنتاجية كما ونوعا، وتقلل النزاعات، وتجعل المجتمع أكثر توافقا، وتمتعه بنشاطات أوفر وإنتاجية أعلى".
وليس هناك طريقا أفضل لاتباع نصيحة هذه الدراسة، والاستفادة من فوائدها الاجتماعية والاقتصادية، من الالتزام بدعوة الدين الإسلامي الحنيف إلى الابتسامة، والكلمة الطيبة، وحسن الخلق، التي تبني بيئة الأكسجين المنشودة، وتمنع التلوث عنها. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف يستطيع الإنسان أن يتمسك بهذا الالتزام أمام السلوك السلبي للبعض، وأمام ضغوط الحياة وتحدياتها المختلفة، التي تمثل تلوثا يضيق صدر الإنسان به، ويخرجه بالتالي من بيئة الأكسجين المطلوبة.
ولا بد في هذا المجال من تعليق يحاول التعامل مع السؤال. لا شك أن حسن الخلق، الذي يشمل الصدق والاستقامة وميزات إنسانية أخرى، ينبع من الإيمان وتعززه الفطرة التي خلقها الله تعالى في الإنسان. أما الابتسامة والكلمة الطيبة فلا تأتيان تلقائيا مع حسن الخلق، إنما تحتاجان إلى "عادة" ينبغي تبنيها لتصبحا بالتالي أمرا تلقائيا في التعامل مع الناس.
وفي موضوع "العادة"، يقول العالم الإغريقي الشهير أرسطو Aristotle "إنها تميز الإنسان الذي يظهر في أعمال متكررة يقوم بها". وما أجمل أن يكون هذا التميز في ابتسامة وكلمة طيبة، وأن يقترن أيضا بحسن الخلق. ففي ذلك خير إسهام في بناء بيئة الأكسجين المفعلة لنشاط الإنسان وعطائه اجتماعيا واقتصاديا. ولعل من المفيد القول هنا إن مهارة الذكاء العاطفي Emotional Intelligence التي تحدثنا عنها في مقال سابق نشر في 5 مارس 2015، مهارة يمكن اكتسابها "كعادة"، خصوصا أنها تمثل متطلبا يحتاج إليه الإنسان في اختيار الكلمة الطيبة المناسبة في الظروف المناسبة.
ليست بيئة الأكسجين التي ننشدها ترفا، بل هي بجوانبها الثلاثة الابتسامة والكلمة الطيبة وحسن الخلق ضرورة. إنها ضرورة اجتماعية للتعامل مع الآخرين في موضوعات الحياة الخاصة؛ وهي ضرورة مهنية للعمل مع الآخرين والتعاون على تعزيز الإنتاجية وتفعيل الأداء في قضايا الحياة الاقتصادية. هي مسؤولية فردية، لكنها تحتاج إلى أن تعم الناس جميعا كي تحقق طموحاتها المنشودة. فإن حدث ذلك انتعشت بيئة الأكسجين لتنعش معها جوانب حياتنا كافة.

إنشرها