Author

تأهب الاقتصاد السعودي لعام رابع من الإصلاح

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية

سيتجاوز الاقتصاد الوطني بمرور منتصف العام الجاري عامه الثالث على التوالي، من مرحلة الإصلاحات الجذرية، تحت مظلة عديد من البرامج التنفيذية، ضمن "رؤية المملكة 2030"، ليدخل العام الرابع من فترة الإصلاحات والتطوير متسلحا بالنتائج الإيجابية التي بدأت في التحقق بتوفيق الله، واضعا أمامه عديدا من التحديات التنموية الممتد وجودها منذ عدة عقود زمنية طويلة، وما زالت تؤثر في أوضاع الاقتصاد والمجتمع على حد سواء.
وهو الأمر المفهوم لدى الأطراف كافة القائمة على تنفيذ البرامج الراهنة للإصلاح، والتحول بمحركات النمو نحو مستهدفات "رؤية المملكة 2030"، نتيجة للتدرج غير المربك للاقتصاد، وإن ظن بعض المتأثرين سلبيا بحزمة الإصلاحات عكس ذلك، هذا من جانب أول، ومن جانب آخر لضخامة التشوهات الكامنة خلف تلك التحديات الجسيمة، واستحالة التخلص منها خلال فترة زمنية قصيرة أو متوسطة الأجل.
حسبما يتوافر حتى تاريخه من مؤشرات أداء حديثة للاقتصاد الوطني، يمكن التركيز على أبرز تلك المؤشرات، بالإشارة إلى تحقيق الاقتصاد نموا حقيقيا ربع سنوي وصل إلى 3.6 في المائة بنهاية الربع الرابع من 2018، مقارنة بنحو 0.9 في المائة خلال الربع الثاني من 2016، وكان المعدل قد سجل أدنى مستوياته بنهاية الربع الرابع من 2017 عند معدل سلبي وصل إلى 1.3 في المائة. وبوتيرة جيدة؛ تمكن القطاع الخاص من النمو خلال الربع الأخير من العام الماضي بمعدل 2.0 في المائة، مقارنة بمعدل صفري خلال الربع الثاني من 2016.
وعلى مستوى الأداء المالي للميزانية الحكومية، فقد تمكنت من تحقيق فائضها الأول بنهاية الربع الأول من العام الجاري بأعلى من 27.8 مليار ريال "3.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي". وتواصل ارتفاع معدل نمو الاستثمار الأجنبي المباشر ليصل إلى 1.4 في المائة بنهاية الربع الأخير من العام الماضي، مقارنة بمعدلاته السلبية طوال ثلاثة أرباع عام 2017، مستقرا عند أعلى من 865.4 مليار ريال. كما شهد الاقتصاد تصاعد القيمة الإيجابية للحساب الجاري، حتى وصل إلى 271.3 مليار ريال بنهاية 2018 "9.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي"، كأفضل أداء له خلال الأعوام الأربعة الماضية.
فيما لا تزال تحديات سوقي الإسكان والعمل قائمة، على الرغم مما تحقق ضمنهما من بعض التقدم، إلا أن ضخامة التحديات الكامنة خلفهما أكبر بكثير من أن ترى لهما نتائج سريعة لافتة، ويؤمل أن تنشط الأجهزة الحكومية القائمة عليهما بمزيد من الجهود والعمل الدؤوب، وأن تتكاتف معها بقية الأجهزة الحكومية ذات العلاقة، وصولا إلى تحقيق نتائج إيجابية ملموسة تنعكس على الاقتصاد الوطني والمجتمع، وكما هو معلوم أن هذين التحديين يمسان شرائح واسعة جدا من المجتمع أفرادا وأُسرا، وهو ما يزيد من الضغوط على كاهل الأجهزة ذات العلاقة، وفي الوقت ذاته ما يتطلب فعليا جهودا أكبر يتحتم بذلها، وتسخير الطاقات والموارد والإمكانات كافة، التي تم توفيرها لكل من وزارتي الإسكان والعمل من قبل الدولة - أيدها الله-، وبما لا يمكن القبول بحدوث أي تقصير أو تأخير محتمل على مستوى هذين الجانبين.
بشكل عام، لا يزال الطريق طويلا، ولا يعني ما تحقق حتى تاريخه أننا وصلنا إلى نهاية الأهداف، كما لا يعني تأخر تقدم بعض ما كان مستهدفا تحقيقه عجزنا عنه، بل كل ذلك جزء من التحديات التي نخوضها جميعا في الطريق الطموح الذي بدأنا خوضه منذ ثلاثة أعوام، ويبقى منه نحو 11 عاما بحلول 2030. تؤكد المؤشرات الأخيرة توافر قدرة أكبر لدى الاقتصاد الوطني على تجاوز كثير من التحديات، سواء تلك الناتجة عن عمليات الإصلاح، أو تلك المترسبة نتيجة قصور عديد من السياسات التنموية السابقة، التي توزعت بين مختلف جوانب التنمية المستدامة كالتوظيف وتحسين مستوى الدخل، وتقليص فجوات التباين في مستويات الدخل بين طبقات المجتمع، والحد من أشكال احتكار الأراضي والعقارات والأنشطة التجارية والخدمية، إضافة إلى محاربة أشكال وأوجه التستر التجاري كافة، وتحسين بيئة الاستثمار المحلية، وتعزيز التنافسية في السوق المحلية، والعمل على معالجة مسلسل عديد من الأزمات التنموية كأزمة الإسكان، وسرعة تطوير البنى التحتية، والارتقاء بالرعاية الصحية، وتوسيع فوائد التنمية الشاملة والمستدامة، لتشمل أكبر قدر ممكن من مختلف الشرائح السكانية في المدن والمناطق الحضرية على حد سواء.
مع أن عمليات الإصلاح الراهنة، لا تقف عند حدود معينة في الأجلين القصير والمتوسط، ذلك أنها تأتي ضمن تغييرات جذرية واسعة وشاملة لكامل نسيج السياسات الاقتصادية الراهنة "إعادة هيكلة كاملة للاقتصاد الكلي"، بصورة تستهدف إيجاد اقتصاد على مستوى إنتاجية أكفأ وأفضل، وأكثر تنوعا في قاعدته مقارنة بما كان عليه سابقا، والذهاب إلى أبعد من ذلك ليصبح أكثر تنافسية، مبتعدا عن الاعتماد المفرط على الإنفاق الحكومي المباشر وغير المباشر، وتيسير السبل كافة أمام كيانات القطاع الخاص عبر تسهيل بيئة الاستثمار المحلية، وفتح نوافذ المنافسة الكاملة والحد من أشكال الاحتكار، بما يكفل سهولة توجه السيولة والثروات نحو قنوات الاستثمار المتنوعة، التي تخدم احتياجات الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، وتسد أمام الثروات المحلية جميع الطرق المؤدية إلى تدفقها نحو المضاربة العشوائية، أو التكدس في أصول غير منتجة كالأراضي وغيرها من الأصول.
إننا في الطريق الصحيح تماما، المنتهي بالتخلص من تشوهات استغرق تنامي وجودها عقودا زمنية طويلة، وما نتج عنها من تحديات تنموية جسيمة جدا، لا كما قد يظن البعض أنها تولدت كنتائج للتحول الاقتصادي الراهن، والتأكيد هنا على أن أي تحولات هيكلية لأي اقتصاد، كانت معلومة لدى الأغلبية منا، أنه سيصاحبها دون أدنى شك كثير من الآثار العكسية قصيرة الأجل ومتوسطته، سرعان ما ستبدأ في التحسن تدريجيا بعد تكيف الاقتصاد والمجتمع ومختلف مكوناتهما مع تلك الإصلاحات. إن ما يجري اليوم من تحولات هيكلية للاقتصاد الوطني، يشبه إلى حد كبير جدا جسدا أحاطت به الشحوم في جميع مناطقه، وأصبح يعاني كثيرا الوزن الزائد، ثم بدأ في التخلص من تلك الشحوم بممارسة الرياضة، ولا شك أنه سيعاني كثيرا في بداية الأمر، إلا أنه في نهاية الأمر سيجني جسدا رياضيا نشيطا، خاليا من الوزن الزائد. والله ولي التوفيق.

إنشرها