Author

«الجارديان» الإلكترونية .. كيف تمكنت من البقاء؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد


قد لا نحتاج إلى كثير من النقاش لمعرفة أن الصحافة بشكلها ومعاييرها التقليدية لم تعد قابلة للحياة من حيث المحتوى والشكل، وكذلك نموذج التمويل، الذي كانت تستند إليه قبل غزوة الثورة الخوارزمية "الرقمية".
الثورة الخوارزمية خلخلت الوجود والحياة على البسيطة. ولم تستثن هذه الثورة العملاقة أي شيء أو مكونا في حياتنا إلا وخلخلته.
وهي تبسط هيمنتها على كل الأنشطة من ثقافية واجتماعية واقتصادية وإعلامية، فيبدو أن هذه الثورة لا نهاية لتطورها وانتشارها.
الخوارزمية هي المستقبل. ولم يبق لدينا تقريبا أي شيء إلا وخورزمته.
وفي طريقها إلى خورزمة حياتنا ومضاميرها، فإن الثورة هذه تأكل من جرف كل نشاط تقتحمه. بمعنى آخر، فإن خورزمة أي نشاط يأتي على حساب الطريقة التقليدية التي كنا بها نمارسه ونتعامل معه.
وتصل واردات الشركات الخوارزمية، التي بالكاد يبلغ عمرها أكثر من عقدين، مئات المليارات من الدولارات. من أين تأتي بها؟ الجواب يسير. تجمع أغلب وارداتها على حساب الشركات التقليدية ومنها الصحف والمجلات والقنوات الإعلامية التقليدية الأخرى.
كان الإعلان ولا يزال يشكل عماد التمويل للصحافة ووسائل الإعلام الأخرى في الغرب. بيد أن ظهور الإنترنت، ومن ثم الشركات الخوارزمية التي استندت إليها من أجل التواصل السريع العابر للحدود الجغرافية والثقافية والاجتماعية، دفع المعلنين إلى مغادرة الوسائل التقليدية لترويج بضاعتهم.
وخسرت أشهر الجرائد نماذج التمويل المستدامة التي كانت تتكئ عليها وكان الإعلان يشكل موردها الأساسي.
ولنا في جريدة "الجارديان" البريطانية خير مثال، حيث رافقت الخسارة هذه الجريدة، بعد أن اقتحمت الشركات الخوارزمية حياتنا، وبدأت تستأثر بأغلب موارد الإعلانات.
"الجارديان" كشركة لم تستطع تحقيق أي أرباح لعدة سنين خلت، لا بل إنها خسرت نحو 57 مليون جنيه استرليني في السنوات الثلاث الماضية. قد لا يبدو المبلغ ضخما بالنسبة إلى شركة كبيرة، ولكن إن عرفنا أن إيراداتها السنوية لا تتجاوز 223 مليون جنيه استرليني لعرفنا وقع الخسارة على الجريدة الشهيرة هذه.
ولهذا كانت مناسبة للاحتفال بالنسبة للشركة بعد نشر السجلات المالية أخيرا، التي أظهرت أن الجريدة استطاعت أن تقف على قدميها دون خسارة في العام المالي الفائت.
وكان ذلك أيضا مناسبة لنشر خبر على صفحتها الرئيسة تبشر قراءها أن نموذج التمويل الجديد الذي تبنته قبل بضع سنين بدأ يأتي أكله.
في السابق، وقبل الاحتلال الخوارزمي للعالم، كان الخبراء والباحثون يعزون نجاحا كهذا بالنسبة لشركة إعلامية إلى زيادة مطردة في واردات الإعلان.
لكن ما مكن "الجارديان" من تحقيق ربح لا يتجاوز مليون جنيه استرليني "في الحقيقة نحو 800 ألف جنيه" ليس الإعلانات بل مساهمات طوعية من القراء، الذين تقاطروا زرافات للتبرع لها بعد نشرها إعلانا كان بمنزلة استجداء.
وهذا الإعلان ترفقه الجريدة في نشرتها الرقمية بعد كل خبر أو تقرير أو مقال، تحذر فيه القراء من أن الصحافة الرصينة والنزيهة والموضوعية أضحت في خطر بعد اقتحام الشركات الخوارزمية لمعاقلها.
ويقول الإعلان إن التبرع حتى ولو بدولار واحد سيمكن الجريدة من الاحتفاظ بسياستها التحريرية المستقلة وولوج عالم الصحافة الاستقصائية التي مكنتها من تحقيق أكثر من سبق صحافي في السنين الثلاث الماضية.
ولم يبخل عليها القراء، حيث تقول الجريدة إن لديها الآن 660 ألف قارئ يقدمون تبرعات شهرية منتظمة، ونحو 300 ألف قارئ آخر يتبرعون لها بين الفينة والأخرى.
وشكلت التبرعات واحدا من أهم الأركان الثلاثة الرئيسة من واردات ميزانيتها في العام الماضي.
ولا تفرض "الجارديان" شروطا لقراءة صفحتها الإلكترونية، ولا تضع حاجزا بين المحتوى والقارئ. كل المحتوى متاح للقراءة مجانا، وهو في الحقيقة دسم في أغلبه، راق في أسلوبه، وفيه محاولة جادة لتطبيق أهم معايير النزاهة والموضوعية.
وتعد "الجارديان" الجريدة الرصينة الوحيدة – حسب علمي – في الغرب التي لا تضع أي حاجز مادي أو غيره بين المحتوى الذي تقدمه وبين القراء.
وبهذا تكون "الجارديان" قد دشنت نموذجا جديدا ويبدو مستديما للتمويل الذاتي خارج نطاق تأثير أصحاب النعمة من الممولين الكبار الذين يفرضون رؤيتهم على المحتوى. وهذا النموذج الجديد لن يستديم دون الدعم المادي الذي يقدمه لها نحو مليون قارئ.
ورغم الخسارة التي كانت سمة بارزة لهذه الجريدة في السنين الماضية، إلا أنها حققت نجاحا باهرا من حيث الانتشار. وتظهر الإحصاءات أن عدد مشاهدات صفحاتها على موقعها الإلكتروني بلغ 1.35 مليار في آذار (مارس) من هذا العام، بعد أن كان 790 مليونا في كانون الثاني (يناير) من عام 2016.

إنشرها