Author

«بيتكوين» .. التلاعب بالأسواق وتحديات التشريع

|


لقد كانت بداية القرن الحالي مملوءة بكثير من التحولات الحادة في المفاهيم الاقتصادية والعلمية وذلك في عقده الأول خصوصا، وامتدت تلك التأثيرات حتى يومنا هذا، فمن ينظر إلى العالم أو آخر تسعينيات القرن الماضي حتما سيشعر أن البشر الذين عاشوا تلك الفترة هم على غير صلة بهذا العالم الذي يعيش اليوم في منتصف العقد الثاني من عمر هذا القرن. فأكثر بقليل من 15 عاما كانت مذهلة جدا، ولعل أشد تلك القضايا التي تربك الفهم وتحير العقول هو ذلك القدر من القوة التي يستطيع الفرد الواحد من خلالها القيام بعمليات برمجية صغيرة على حاسوبه الشخصي ليثير نقاشا هائلا بين العالم من شرقه إلى غربه، واليوم يمكن لأي فرد عادي نقل الأموال من أي دولة إلى أخرى والتخلص من الأصول التي بحوزته في ثوان معدودة دون أن يلزمه ذلك القيام بأي حركة أكثر من الضغط على لوحة المفاتيح الرقمية بين يديه، فالعلاقات الاقتصادية المشهورة والطريقة المعروفة لإبرام العقود وتنفيذها قد تغيرت عبر ما أصبح يسمى اليوم بـ"البلوكتشين"، لكن الأكثر دهشة هو ذلك القدر من السلع والخدمات التي يمكنها أن تصل إليك وأنت لا تملك أي مال على الحقيقة، سوى ما تسمى بعملة "بيتكوين"، وهي عملة رقمية لا يصدرها أي بنك مركزي في العالم أو يشرف عليها وليس لها واقع ملموس لكنها مع ذلك قادرة على شراء كثير، وفي نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الماضي احتفل المتعاملون بهذه العملة المشفرة "بيتكوين" بذكرى مرور عشرة أعوام على صدور الدراسة التي أعدها شخص ما زالت هويته غامضة يدعى ساتوشي ناكاموتو، التي كانت بمنزلة البذرة الأولى لعالم العملات الافتراضية.
من الصعب فهم أو تفسير بنية الاقتصاد في ظل هذه العملات الإلكترونية التي انتشرت بعد نجاح "بيتكوين" كالنار في الهشيم وأصبح اليوم هناك أكثر من ألف عملة مشفرة مختلفة أطلقت جدلا كبيرا بين الاقتصاديين والمختصين بشأن المفاهيم التقليدية للنقود، وتغيرت لدى قطاع ملموس من المستثمرين قناعات راسخة بشأن الطريقة التي يجب أن ينظر إليها المجتمع الحديث للتمويل، والأداء المصرفي مستقبلا. لكن كما أشرنا فإن التحولات في عالم الاقتصاد كانت حادة خلال الفترة القصيرة جدا من عمر هذا القرن وعالم "بيتكوين" لم يكن بأقلها إثارة بل كان مليئا بكثير منها. فمن التجاهل والازدراء إلى موجات من الارتفاع والانخفاض ومن سعر دولار واحد يساوي 2300.03 "بيتكوين"، إلى شراء قطعتين من البيتزا مقابل عشرة آلاف "بيتكوين" ثم التحولات الجادة والغريبة عندما وصلت وحدة "بيتكوين" تعادل 31.91 دولار، وفي 9 نيسان (أبريل) عام 2013 تجاوزت حدود 200 دولار لأول مرة في تاريخها، ثم في 11 كانون الأول (ديسمبر) 2014 بدأت شركة مايكروسوفت في قبول المدفوعات بـ"بيتكوين"، في أول اعتراف بهذه العملة من قبل الشركات العالمية، وهو ما قاد بعد ذلك إلى أن تتجاوز عملة "بيتكوين" سقف ثلاثة آلاف دولار لأول مرة على الإطلاق، وسط جدل مستمر حول الآفاق المستقبلية للعملات الافتراضية ككل، وهذا النقاش والقلق أديا إلى عكس تأثير ظاهرة القلق بشأن العملة حيث تجاوزت "بيتكوين" سقف عشرة آلاف دولار في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2017، ولم تمض سوى ساعات معدودات إلا وقفزت إلى مستوى 11 ألف دولار، ثم 20 ألف دولار، ثم في موجة تحولات غير مفسرة أيضا انهارت العملة لتصل إلى أقل من خمسة آلاف دولار وفي غضون أشهر قليلة جدا، هكذا جاءت "بيتكوين" بجنون عالم الأسواق الإلكترونية وادعاءات واسعة بحرية الأسواق والفرار من قيود المصارف، ورغم المحاولات الهائلة التي تقف خلف تفسير هذه العملة وكيفية إصدارها والتحكم في حجم المعروض منها إلا أن الحقيقة الأساسية التي تقف أمامنا اليوم أن النظرية الاقتصادية الحالية غير قادرة على تفسير أسباب الارتفاع والهبوط الحاد في سعر هذه العملة والتقلبات التي شهدتها، ذلك أن النظرية الاقتصادية لا يمكنها أن تتنبأ بشيء لم تنظر له، وإذا كان مفهوم العملة مرتبطا بنظريات ومعادلات معقدة الحساب ومتنوعة التركيب ومن بينها حجم الناتج المحلي وعرض النقود الأول والثاني فإن نقاشا لهذه العملة من هذا الباب يعد نقاشا لا معنى له على أحسن ظن. ولعل الأخطر لم يزل قادما فإن إصدار التشريعات بشأن هذه العملة وهي لم تفسر بعد وفقا لأي نظرية أو فلسفة يعد مخاطرة بحد ذاته وقد يقود إلى موجات من التغيرات الحادة بينما هي قادرة على جذب الاستثمارات والتلاعب بالأسواق، ولعل تجارب الصين في هذا الموضوع خير دليل.

إنشرها