Author

أيها المعلمون رفقا بالطلبة

|

عندما يصبح الإنسان معلما، سواء في التعليم العام أو التعليم العالي، يكون قد وصل إلى درجة متقدمة من النضج الإنساني والمعرفي. في التعليم العام يكون قد حصل على "درجة جامعية" في حقل تخصصه، إلى جانب تأهيل دراسي في التربية. وفي التعليم العالي يكون قد حصل على "درجة الدكتوراه" في حقل تخصصه، ولكن دون تأهيل دراسي في التربية، على أساس أن حصوله على الدكتوراه قد أعطاه خبرة في التعامل مع من هم أكثر منه علما ومع من هم أقل، وأن في هذه الخبرة ما يكفي كي يكون مدرسا جامعيا مناسبا. ولا شك أن دور المدرس في التعامل مع الطالب أمر مهم للغاية في مستوى أداء العملية التعليمية ونجاحها؛ ولا شك أيضا أن العملية التعليمية تتمتع بالأثر الأهم في تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها، فهي تقدم الإنسان المؤهل، الذي يشارك في تحمل مسؤولية ذلك، وفي العمل على تنفيذ ما تحتاج إليه من متطلبات.
انطلاقا مما سبق، هناك فرضية عامة تقول إن سلوك المدرسين، سواء في التعليم العام أو العالي، سلوك سليم، وإن خلاف ذلك حالات نادرة، خارجة عن المألوف الذي يثبت القاعدة. لكن هناك خبرات عديدة ترى أن مثل هذه الحالات ليست نادرة وتحتاج إلى تقويم. وهناك في هذا المجال إسقاطات من قبل الكثيرين تضع اللوم على تقصير الدارس أو سلوكه أو إمكاناته الذاتية في أي خطأ قد يقع فيه المدرس. لكن ما يجب قوله هنا هو أن المسؤولية الأولى تقع على عاتق المدرس، لأنه الأكثر خبرة، والأعمق اطلاعا، والأوسع تأثيرا في مجريات الأمور. صحيح أن سلوك الطالب مهم أيضا في أي مشكلة يمكن أن تقع، لكن سلوك المدرس يبقى الأهم، لأن المسؤوليات تكون بقدر المعطيات.
ليس المقصود، فيما سبق، سلوك المدرس في تقييم الطلاب أو وضع الدرجات، فهناك ضوابط في وضع الاختبارات وأساليب تصحيحها، في مختلف المؤسسات التعليمية؛ وهناك "هيئات معنية بالاختبارات المهمة"، مثل "المركز الوطني للقياس"، ومثل "مراكز التقييم المهني الدولية" في بعض المجالات.  وقد تكون هناك اختلافات في التقييم في بعض المعطيات كتقييم الرسائل العلمية ومشاريع الخريجين، وتقييم الجوائز التي تمنح للمتميزين؛ لكن هذه الخلافات تحسم من خلال تعدد المقيّمين، الذي يقود إلى "نتيجة وسطى" بين ما يقدمونه من نتائج. المقصود الذي يهمنا هنا هو الحاجة إلى علاقة إيجابية بين المدرس والطالب، تؤدي إلى تحفيز الطالب وتشجيعه وتوجيهه باتجاه المعرفة والتحصيل، واكتساب تأهيل أفضل يطلق العنان لإمكاناته في المستقبل.
قام أحد "المرشدين الطلابيين" في المملكة، وهو من الجنود المجهولين في السعي إلى بناء مثل هذه العلاقة الإيجابية، بطرح توصيات مفيدة للمدرسين مؤيدة بنتائج مرغوبة. بعض هذه التوصيات تدعو على اتباع "إيجابيات" مطلوبة؛ وبعضها تحذر من "سلبيات" مرفوضة. تقول توصيات التوجه نحو الإيجابيات إن "تشجيع" المدرس للدارس يعطيه "الثقة"؛ وإن "الإشادة" بمنجزاته تمنحه "تقدير" منجزات الآخرين؛ وإن الشعور "بالأمان" يرسخ فيه "الصدق"؛ وإن "التسامح" يعلمه "العفو"؛ وإن "الإنصاف" يكسبه "العدل"؛ وإن "الصداقة" تقوده إلى "محبة الآخرين"؛ وإن "المحبة" تدفعه إلى قبول "النصح والتوجيه". أما توصيات تجنب السلبيات فتحذر من أن "السخرية والتصغير" يقودان إلى "الإحراج والانطواء"؛ وأن "القسوة" ترسخ "العناد"؛ وأن "الانتقاد" يعلمه "التنديد" بالآخرين؛ وأن "العداوة" تنقل إليه "الكراهية والحقد".
على المستوى الدولي يروي "كلارك كير" Clark Kerr الذي كان رئيسا "لجامعة كاليفورنيا" California Univ. في "الفترة 1958 - 1967"، أنه اهتم منذ بدايات عمله الأكاديمي بمسألة تعامل المدرسين مع الدارسين من أجل تعزيز العملية التعليمية. وتحدث كيف أن ذلك الأمر كان مستهجنا من قبل معظم المدرسين؛ لكنه بعد أن أصبح مديرا للجامعة وضع لائحة لذلك، حيث تم إقرار هذه اللائحة، ليس في فترة ولايته، بل في الفترة التالية لذلك على يد خليفته "تشارلز هيتش" Charles Hitch.
هناك أمثلة عامة لحالات كثيرة تشهد على الحاجة إلى "رفق المدرسين بالدارسين". ففي مناقشة رسائل الدراسات العليا ومشاريع التخرج، في الجامعات المختلفة، نجد بعض الممتحنين يبحر ويستطرد في سلبيات العمل الذي تقدمه الرسائل والمشاريع، دون أن يذكر أي إيجابيات أو فوائد يقدمها. صحيح أن لكل رسالة أو مشروع حدودا أو قصورا في التعمق في بعض الجوانب ذات العلاقة بالعمل؛ لكن لكل رسالة أو مشروع معطيات مفيدة أيضا تستحق البيان والتقدير. ولا شك أن طرح السلبيات والاستطراد فيها، دون ذكر أي إيجابيات، مربك للدارس؛ ويؤدي هذا الإرباك إلى الحد من قدرته على التواصل وطرح ما لديه، خصوصا أنه مبتدئ، وأن الطرف الآخر متمرس. 
ولعل ما يجب أن يكون هو أن على الممتحن أن يطرح "معطيات العمل وفوائده" قبل أن يتوجه نحو السلبيات ويناقشها. فمثل ذلك يبدأ بمنح بعض الثقة للدارس تشجعه على "التفاعل مع السلبيات وتفهمها" واستيعاب عوامل الضعف في عمله، إضافة إلى كيفية الاستفادة من ذلك في تطوير العمل نحو الأفضل. إن مثل ذلك يخدم العملية التعليمية، في مجال الرسائل والمشاريع، ويجعل أطرافها أكثر قدرة على الشراكة في تفعيلها وتعزيز معطياتها، في إطار بيئة إيجابية بعيدة عن "الإرباك والتوتر". وبالطبع لدى كل من يعمل في التعليم أمثلة أخرى كثيرة.
توصف العلاقة بين "المدرس والدارس" عادة بأنها علاقة "تواصل ونفور". هي "تواصل" لأن العملية التعليمية المهمة لكل منهما، وللمجتمع أساسا، تقوم بالجمع بينهما؛ وهي علاقة "نفور" عندما لا يراعي الطرف الأقوى "المدرس" الاحتياجات الإنسانية للطرف الأضعف "الدارس". ولا شك أن "العلاقة الإيجابية" المنشودة، بين المدرس والدارس، تمثل قوة إضافية مطلوبة "للعملية التعليمية". ولعله يمكن وصف هذه القوة "بالناعمة" المحفزة، وهي ليست تابعة لأي موضوع أو تخصص، لكنها داعمة لكل موضوع وكل تخصص. والأمل أن "يرفق" جميع "المدرسين" بالأجيال الجديدة من "الدارسين"؛ والأمل أيضا أن يستجيب هؤلاء للرفق "بالالتزام"؛ ولعلنا نعود إلى هذا الموضوع في مقال قادم بمشيئة الله.

إنشرها