ثقافة وفنون

اقتصاد الاهتمام .. مستقبل الهوية الرقمية والعلاقات

اقتصاد الاهتمام .. مستقبل الهوية الرقمية والعلاقات

اقتصاد الاهتمام .. مستقبل الهوية الرقمية والعلاقات

ينتمي الكاتب والإعلامي الفرنسي برينو باتينو Bruno Patino إلى جيل الصحافيين المخضرمين، الذين عاشوا المرحلة الانتقالية التي يمر بها المجال الإعلامي؛ من الإعلام التقليدي نحو الإعلام الرقمي. لم يتردد وزميله في الحرفة جون فرانسوا فوجيل Jean –François Fogel - في غمرة الانتشاء بحصاد ومنجزات الثورة الرقمية، قبل نحو عقد ونصف - في تحرير كتاب مشترك اختارا له عنوان "الصحافة دون جوتنبر"Une presse sans Gutenber.
جاء هذا الكتاب بعد مضي خمس سنوات من التحاق الصحافيين بمغامرة فريق صحيفة "لوموند الفرنسية" للعناية بالفرع الرقمي لها، وبعد انقضاء عشر سنوات على انطلاق تجربة المواقع الإخبارية الإلكترونية؛ فبداية معظمها في العالم يعود إلى عامي 1996 و1997.
يكشف الكتاب كيفية قيام الإنترنت بتفويض الصحافة التقليدية، معلنا نهاية العالم القديم؛ أي نهاية جوتنبرج، والدخول في عالم جديد، بما يتيحه من فرص للرسائل الفورية والتواصل في كل مكان وأي وقت. أكثر من ذلك، يعكس الكتاب انتصار الرأسمالية، حيث لا تعرف الدولة كيف تلعب دورا، في وضع يحتل فيه الجمهور وليس المثقفون أو النخبة قلب الشبكة، ما يهدد بمهمة الوساطة التي تقوم بها الصحافة التقليدية.
طرح المؤلفان سنة 2013 كتابا جديدا عن الموضوع ذاته، بإشكاليات وأسئلة جديدة فرضها واقع الممارسة في مجال الإعلام الرقمي، وكذا واقع الحياة اليوم للإنسان في عصر الرقمنة، إنه كتاب "الشرط الرقمي" La condition Numérique بتفاصيل أدق وتحليل أعمق، من ذاك التقريظ والانطباعية اللذين سادا الكتاب الأول، نتيجة الدهشة والإعجاب بما تتيح الإنترنت من فرص وإمكانات.
على مدار تسعة فصول حية وغنية، يكشف الكتاب مختلف أوجه الوجود الإنساني التي انقلبت رأسا على عقب بسبب الرقمنة. يحاول الباحثان فهم الأسس والكيفيات التي استطاعت بواسطتها الإنترنت؛ مع الشبكات الاجتماعية والاتصال المستمر، إعادة تشكيل طريقة عيش الأفراد، وكيفية تصرف ملايين من مستخدمي الإنترنت.
صحيح أن الإنسان يصر على أن يعيش حياة مادية حقيقية للغاية، بحسب الكتاب، غير أنه يتغدى من حين إلى آخر على التوغلات التي تتم في العوالم الرقمية التي تميز حياتنا، وهكذا باستمرار إلى أن يجد نفسه مرتبطا بحبل سُري يربط كل شيء من حوله.
يثير الكتاب النقاش بشأن عديد من الإشكاليات غير الواضحة تماما، من قبيل: مستقبل الهوية الرقمية والعلاقات الجديدة بين القوى الحية والشبكات الاجتماعية والتأثير الرقمي في مسار المعلومات وكيفيات تلقي المعرفة والثقافة في هذه العوالم... إلى غير ذلك، بأسلوب تشكيكي يدعو إلى التفكير والتأمل، بعيدا عن ثنائية الصواب والخطأ أو اللغة القطعية والأحكام اليقينية.
يقر باتينو وفوجيل في النهاية، بصعوبة تحديد الشرط أو الحالة الرقمية، نظرا إلى ما يطبعها من توسع وتجدد دائمين، أو سيولة مستمرة بتعبير المفكر زيجمونت باومان. عادين أن الحالة الرقمية أضحت "طريقة أخرى للوجود في العالم، واستيعاب حقيقة تتشكل من خلال الواقع وتمتد إلى الرقمي". ففي نظريهما "لا يؤدي تسجيل الدخول وكلمة المرور إلى حياة أخرى، بل إلى حياة تختلف فيها الحالة الإنسانية؛ الاجتماعية والانفرادية في الوقت نفسه"٬ باختصار "لقد أصحبت التجربة الرقمية ساعة لا نهاية لها تُحوِّل كل شيء؛ من وسائل الإعلام والترفيه ونظام الإنتاج والعلاقات الشخصية حتى تفكيرنا في الحياة".
يعود برينو باتينو إلينا مطلع الشهر الجاري؛ بمفرده هذه المرة، بكتاب جديد ومثير، يظهر فيه الكاتب في وضعا أشبه ما يكون بالمرتد عن أفكاره السابقة. واختار لكتابه الصغير من حيث الحجم؛ 186صفحة، عنوانا غامضا غموض الانقلاب الذي حدث لصاحبه تجاه الثورة الرقمية "حضارة السمك الأحمر: محاولة على هامش اقتصاد الاهتمام" La civilisation du Poisson Rouge: petit traité sur le marché de l’attention.
لا يتردد الكاتب في التأكيد أن الصورة التي شكلها عن عالم الإنترنت في بداياته ليست عين ما يقع اليوم، فقد كان جيل بأكمله – كما يقول – ينظر إلى الأمر كطفرة، أي مشروع مجتمع يمكنه أن يسهم في بناء أشكال جديدة من الديمقراطية والثقافة، فغاية التحول والانتقال كانت تحقيق مجتمع رقمي واقتصاد تشاركي واستقلالية وحيادية في الفضاء السبرنتيكي.
لم يحدث شيء من كل هذا، بعدما استغلت الرأسمالية الرقمية موجة الانتقال وقامت بالتخطيط وهيكلة اقتصاد الاهتمام حتى يتسنى لها أن تحكم قبضتها على المستهلك، وتستحوذ على أكبر حصة من وقته لتحولها أرباحا بفضل الدعاية والإشهار.
يؤكد باتينو أن مفهوم "اقتصاد الاهتمام" برز مع ظهور وسائل الإعلام السمعية البصرية، غير أنه بقي محدود النطاق والتأثير زمانيا ومكانيا، ببساطة لأنه لا يمكن أن نحمل أجهزة التلفاز في كل وقت وحين. حتى جاءت الحالة الرقمية لتقلب كل شيء رأسا على عقب، فالجميع أضحى في اتصال دائم وفي كل مكان، ما أسهم في ازدهار وانتعاش اقتصاد الاهتمام.
نعم، لقد تم الاستحواذ على كل أوقاتنا وحياتنا الإنسانية كليا، لأن هواتفنا الذكية أصبحت لا تفارقنا ليل نهار، فكل إشعار يصدر منها أينما كنا يسترعي انتباهنا، فاستعمال الهاتف تداخل مع باقي انشغالاتنا والتزاماتنا. إضافة إلى أن استعمال البيانات الشخصية تحول في هذه العوالم إلى عملة تباع وتشترى من قبل الشركات الكبرى، ما أضفى على هذا الاقتصاد فاعلية ونجاعة أكثر، وأصبح الفرد ببياناته وخصوصياته هدفا دعائيا سهلا من دون رقابة ولا حماية ولا تنظيم.
لقد تحول جزء كبير من ممارستنا اليومية إلى مجرد عمليات ميكانيكية، في عالم افتراضي وعشوائي بعيدا عن الواقع. ليبقى الحل في نظر الكاتب هو الوعي أولا، ثم انخراط الجميع في المعركة؛ على غرار ما حدث ضد تجاوزات الرأسمالية الصناعية في بداية تطورها.
لا مفر إذن من التعبئة لمناهضة هذا اللبوس الجديد للرأسمالية المهيمنة التي هتكت الحميمية والخصوصية من أجل الربح. فكم من المرات نوقف نقاشا مهما من أجل إلقاء نظرة على شاشة هواتفنا، وكم من المرات ننقطع فجأة عن القراءة بسبب إشعار هاتفي. لقد أصبحنا - بحسب - باتينو في قبضة يد غير رحيمة بالمرة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون