Author

السلعة التي تداعب وتهادن الأقوياء والضعفاء

|
أستاذ جامعي ـ السويد


ربما لن يستغرق قارئ جريدتنا الغراء إلا سويعات كي يصل إلى اسم السلعة التي تداعبنا وتهادننا وتفرحنا وتحزننا ومن ثم قد تلعب بأعصابنا. السلعة هذه هناك من يطلق عليها لقب "الذهب الأسود" ولها تسميات أخرى أيضا.
إنها النفط، وما أدراك ما النفط. إنه السلعة الجاحدة والمتمردة والجميلة والقبيحة في آن واحد. قد تدخل السلعة هذه الابتسامة إلى شفاه البعض في الوقت ذاته الذي تجعل فيه الدمعة تتجمع في مقل الآخرين.
خطرت في بالي الاستعارات هذه وأنا أطالع أخبار النفط في الصحافة العامة والمتخصصة، وقلت في نفسي إلى متى تخدعنا هذه السلعة وإلى متى نخفق في تحديد مساراتها والخط البياني لأسعارها؟
عكس كل التوقعات، حققت أسعار النفط أخيرا تقدما لم تشهده في الأشهر الخمسة الماضية ولامست 71 دولارا للبرميل، وأكاد أجزم أن هذا السعر لم يكن في الحسبان ونحن لم نغادر بعد الربع الأول من عام 2019.
ويبدو أن صعود الأسعار الذي سعت من أجل تحقيقه منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" وشركاؤها خارج المنظمة أخذ بعض الساسة المتنفذين على حين غرة.
وهذا ما حدا بأقوى رجل في العالم، الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، اللجوء إلى "تويتر" ونشر تغريدات بلغة ذات نبرة عالية تطلب من الدول المنتجة خفض الأسعار.
وهناك مفارقة كبيرة أن تقرأ لرئيس دولة تحذيرات للدول المنتجة للنفط لخفض الأسعار، بينما الدولة التي يرأسها تضخ أكثر من 12 مليون برميل في اليوم، وهذا يمثل أعلى رقم إنتاج في العالم.
يبدو لي أن كل منتج للنفط وبعض المستهلكين الكبار لهذه السلعة الاستراتيجية صاروا اليوم بين نارين: نار زيادة الأسعار التي تجعل الاستثمار في مصادر الطاقة باختلاف أنواعها مجديا؛ ونار خفض الأسعار الذي يؤثر سلبا في مدخولات وموازنات الدول المنتجة ويجعل أمر ضخ استثمارات في مصادر الطاقة ولا سيما المنافسة "النفط الصخري والطاقة المتجددة" قليل المنفعة.
في أمريكا ذاتها، هناك قبول بصورة عامة لأسعار نفط منخفضة التي، حسب التقارير، تجلب أصواتا كثيرة في الانتخابات الرئاسية وتقريبا تؤمن الفوز للطرف الذي يقف وراءها. وإن علمنا أنه بيننا وبين الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة أقل من سنة ونصف، لعرفنا لماذا كل هذا التهويل من الأسعار المرتفعة. من جهة أخرى، هناك معارضة في أمريكا ومن قطاعات مؤثرة لانخفاض أسعار النفط. السبب الرئيس وراء الطفرة الكبيرة في إنتاج النفط في أمريكا هو النفط الصخري. وكلنا نتذكر الضربة التي تلقاها منتجو هذا النفط في أمريكا ذاتها في عام 2014 عندما هوت الأسعار بشكل غير متوقع.
أمريكا لم تدخل سوق إنتاج النفط والغاز وحسب، بل بدأت تدخل سوق تسويق السلعتين ومن أوسع الأبواب، حتى صارت تتنافس على الأسواق شأنها شأن أي منتج آخر.
مركز استهلاك النفط بدأ يتحول من أمريكا وأوروبا الغربية إلى الدول الناشئة في آسيا مثل الهند والصين وإفريقيا مثل جنوب إفريقيا.
هذه الدول، كما كانت أمريكا في حينه، لها نهم وشره في استهلاك الطاقة إلى درجة أن دخول أمريكا معترك الإنتاج الكبير لم يؤثر كثيرا في الطلب، وأن قرارا من "أوبك" وشركائها تخفيض الإنتاج أكثر من مليون برميل في اليوم قد يؤدي إلى سحب الفائض في الأسواق ودعم الأسعار.
وأظن أنه ليست هناك مؤسسات قد فهمت لعبة أسعار النفط مثل شركات النفط العملاقة. هذه الشركات بدأت توظف أموالها وتنوع استثماراتها. فبدلا من وضع بيضها في سلة إنتاج النفط وحسب، بدأت تستند إلى وسادة فيها تنوع لحمايتها من تقلبات الأسعار. ونرى اليوم ما يشبه الهرولة صوب الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة من قبل هذه الشركات. وكانت هذه الشركات ذاتها وراء ضخ استثمارات هائلة في النفط الصخري.
وآخر التقارير تشير إلى أن شركة شل النفطية العملاقة دخلت في شراكة مع شركة سي. إن. بي. سي. الصينية للتنقيب عن النفط الصخري في الصين التي تنام، حسب التقارير، على احتياطيات مهولة منه.
وآن الأوان للدول النفطية التي يشكل ريع النفط فيها حصة الأسد من وارداتها أن تفكر مليا في تنويع مصادر دخلها.
وبعض الدول النفطية دخلت على خط تنويع استثمار مدخراتها من بيع النفط، وفي مقدمتها تأتي النرويج.
النرويج دولة نفطية حيث يشكل بيع النفط نحو 37 في المائة من صادراتها، ونحو 12 في المائة من إنتاجها القومي. ورغم كونها دولة صناعية وزراعية فائقة التطور، إلا أنها وفرت لشعبها كنزا يتمثل في صندوقها السيادي الأكبر والأكثر شفافية في العالم "نحو تريليون دولار".
النرويج، التي تعداد سكانها نحو خمسة ملايين، بلغت قيمة إنتاجها القومي الإجمالي 398 مليار دولار في عام 2017 بسعر الصرف الرسمي.
وبدأت النرويج أخيرا استثمار مليارات الدولارات من صندوقها السيادي في الطاقة المتجددة وفي شركات ناشئة لم يتم إدراجها بعد في قوائم سوق الأوراق المالية، وهذه سابقة بالنسبة للصندوق النرويجي.
وحسنا فعل صندوق الاستثمارات العامة السعودي الذي وجه عشرات المليارات من مدخراته صوب الطاقة المتجددة، وفي مقدمتها الطاقة الشمسية.

إنشرها