Author

السوق النفطية والحاجة إلى تنسيق عالمي

|


كما يبدو من التصريحات التي تطوف العالم اليوم أن اقتصادات النفط تتنازعها مشكلتان عميقتان، الأولى تتمثل في ضغط المنتجين؛ للمحافظة على مستويات مقبولة من الإنتاج، وبالتالي الأسعار يقابلها صناعة للطلب من الاقتصادات العالمية الكبرى، هذه المشكلة تظهر على شكل صراع العرض والطلب، صراع يحتاج أحيانا إلى تدخل صناع السياسة فيه، فالنفط ما زال هو الممول الأساس لميزانيات كثير من دول العالم، وهذا يتطلب منها أن تضخ مزيدا من النفط لإنتاج إيرادات تحقق لها متطلبات التنمية فيها، ويؤيد هذا الاتجاه للتوسع في الإنتاج فرضية، مفادها أن النفط سيخبو بريقه في المستقبل، مع تزايد انتشار استخدامات تقنيات الطاقة البديلة، وهذا يشكل عامل ضغط على المنتجين، يؤدي دائما إلى رغبة جامحة في رفع سقف الإنتاج، ما يربك مشهد السوق، وفي المقابل هناك طلب قوي من المستهلكين، ورغبة أيضا في التوسع في الخزن الاستراتيجي لأجل مواجهة أي صدمات في أسعار النفط قد تحدث بسبب نظرية قمة إنتاج النفط، وبسبب هذه التوجهات تجد الأسواق تخمة في المعروض، ما يقود الأسعار لمستويات متدنية تؤثر في المنتجين، هنا نقرأ تصريحات صناع القرار في السوق النفطية، وهي تحذر من عدم الالتزام بالحصص، وكما جاء في تصريح وزير الطاقة السعودي أنه على ثقة من أن منتجي النفط في منظمة البلدان المصدرة للبترول "أوبك"، والشركاء من خارجها سيبلغون مستوى الامتثال الكامل للتخفيضات، وهي الرسالة نفسها التي مفادها الالتزام بعدم الوصول إلى تخمة في العرض، ما يفقد توازن الأسعار بطريقة يصعب تجاوزها بسهولة، مع رغبة الدول في رفع مخزوناتها من النفط الرخيص.
المشكلة الأخرى تظهر في أن النفط ما زال أهم مادة لصنع الطاقة في العالم اليوم، وما زالت أي منتجات أخرى بعيدة عن الوصول إلى هذا المستوى، وفي ظل تراجع مستويات الاكتشافات الاستراتيجية للنفط في العالم، فإن حدوث صدمة في المعروض قد تكون أسرع من حدوث ثورة تكنولوجية في محركات الطاقة المتجددة وغيرها من بدائل النفط، هنا نجد القلق بكل وضوح في الرغبة الجامحة لزيادة الاستثمارات النفطية، ونقرأ في تصريحات وزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية السعودي، الخاصة بتقديرات قطاع النفط، الحاجة إلى استثمارات بقيمة 11 تريليون دولار على مدى العقدين المقبلين لتلبية نمو الطلب على الخام. وهذا التوسع في الاستثمارات ضروري أيضا لمواجهة أي ظروف سياسية قد تقود إلى إخراج أي دولة في العالم من الإنتاج، مثلما يحدث مع إيران الآن ودول عدة أخرى.
هكذا هو مشهد السوق النفطية، بين رغبة في الإنتاج لتمويل الميزانية العامة للدول وتخفيض الضغوط الضريبية على المجتمعات، وبين المحافظة على مستويات الإنتاج حتى لا تقع السوق في منزلق تخمة المعروض وتنخفض الأسعار لمستويات يصعب تداركها، وهو ما قد يتسبب في استنزاف خطير وسريع للاحتياطات الاستراتيجية في العالم، ودون أن تتمكن الدول من التعويض بالاستكشافات نظرا لضعف الاستثمارات، وهو ما قد يقود في نهاية المطاف إلى صدمات خطيرة جدا، لذا فإن العالم بحاجة اليوم إلى عمل منسق بين الأطراف كافة، منتجين ومستهلكين ومستثمرين، لا بد من اتفاقيات تجارة جديدة للنفط خاصة، فالجميع بحاجة إلى أن يطمئن، المستهلك على الأسعار، والمنتج على الإيرادات، والمستثمر على العوائد.
لقد نجحت القيادة السياسية في المملكة من إصلاح حوكمة القطاع النفطي في جانب المنتجين، عندما سعت بكل ثقلها السياسي إلى إنتاج مجموعة "أوبك +"، التي تضم 24 دولة مصدرة للنفط، وهي دول "أوبك" ومعها عشر دول نفطية أخرى، كما تم تشكيل لجنة مراقبة وزارية مشتركة تراقب سوق النفط ومستويات الامتثال لتخفيضات الإنتاج، ومع ذلك فإن المشكلة العالمية النفطية أكبر من قدرة هذه الدول على معالجتها تماما، وبينما تتحمل المملكة كثيرا من أجل إصلاح السوق؛ فإن هناك من يجني الأرباح من هذه الجهود، ولذلك فإن الاتفاق العالمي أصبح ضرورة اليوم.

إنشرها