Author

أوروبا «الماكرونية»

|
كاتب اقتصادي [email protected]


"عندما تعطس باريس، تصاب أوروبا بالإنفلونزا"
كلمينس ميتيرنخ، دبلوماسي نمساوي من القرن الـ18

لا أحد يجادل أن قرار الخروج البريطاني من عضوية الاتحاد الأوروبي هز هذا الاتحاد، بل لنقل هز القارة الكهلة كلها. هناك مشكلات ضربت في السابق الاتحاد الأوروبي، لكنه تمكن من حلها بطرق مختلفة. ليس آخرها "مثلا" الأزمات المالية التي عصفت بمجموعة مهمة من دول الاتحاد، كإيطاليا وإسبانيا وإيرلندا إلى جانب اليونان والبرتغال. كما أن هناك اضطرابا إداريا في المفوضية الأوروبية، يعترف به الأوروبيون، ويدعون في كل المناسبات إلى إنهائه، أو في أفضل الأحوال، إلى خفض ضرباته. بل يمكن القول: إن جانبا من عدم اليقين في مستقبل الاتحاد تسرب بالفعل إلى أروقة دوله، وأفرز موجات يمينية متطرفة، بعضها بلغ حد تهديد المؤسسة الضخمة نفسها، وبعضها الآخر لم يكن أكثر من "إزعاجات" لم تلبث أن تمضي في مسرب لا يؤدي إلى التاريخ.
منذ أكثر من عقدين، لم تتوقف الدعوات التي تطالب بضرورة إدخال إصلاحات جوهرية على الاتحاد الأوروبي، لكن مسار الاتحاد نقلها من الطاولة إلى الرف. ومن بين هذه الدعوات "مثلا" ضرورة التأني في قبول عضويات جديدة لبلدان أوروبية، ولا سيما تلك التي نفضت عنها حقبة الكتلة الشرقية، ناهيك عن بعض الدول التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق. غير أن فرحة البلدان القائدة لأوروبا "ألمانيا وفرنسا تحديدا"، قتلت الروح التي قدمت بها الدعوات المشار إليها. أرادوا أن يجعلوا الاتحاد 28 دولة، ويطلقوا المهرجانات الصاخبة لذلك، قبل أن تتحول المملكة المتحدة من عضو أساسي جدا في الاتحاد، إلى عضو يريد الخلاص منه، بصرف النظر عن صواب الخطوة أو خطئها.
مهما تعاظمت قوة بلدان بعينها على صعيد الاتحاد الأوروبي، فإن فرنسا كانت وستبقى البلد القائد الأعلى، بالطبع دون وجود لمثل هذا التوصيف رسميا. إنها أم الاتحاد وأبوه وشقيقته، ومنظرته وحاميته. لا عجب، عندما تتحول الأنظار إلى باريس مع كل أزمة، أو تحول سلبي، أو منغصات، أو مصائب، أو مشكلات. فعندما تواجه الأسرة "أي أسرة" العثرات، تلتف تلقائيا حول قائدها الأب، بحثا عن مخرج. ومع حتمية الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، تقدمت طبيعيا فرنسا لتأخذ زمام المبادرة. وهذه المبادرة لا علاقة لها بالعمل على تغيير الموقف البريطاني، بل بالعودة إلى مسألة إيجاد آليات جديدة لإصلاح الاتحاد برمته. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه قال في خطاب تاريخي حقا "لم تحظ أوروبا بهذا القدر من الأهمية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك، لم تتعرض لخطر مماثل من قبل".
والخطر هنا الذي يقصده ماكرون ليس خروج بريطانيا بحد ذاته، بل انعكاساته على المستقبل الأوروبي. هناك جهات في أغلب بلدان الاتحاد بدأت بالفعل تصرخ لإعادة النظر في عضويات بلدانها في هذا الكيان. بالطبع لم تصل بعد إلى مستوى التهديد الحقيقي، ولكنها تتعاظم، خصوصا مع الحجج البريطانية التي يسوقها الانفصاليون في المملكة المتحدة، لجدوى الخروج. ورغم أن أغلب هذه الحجج تم فضح خوائها، إلا أن آثارها الصوتية ظلت عالقة في الأجواء. بالفعل إنها مبررات زائفة ولكنها مؤثرة بصورة أو بأخرى. ماكرون، لا يركز على الإصلاح في خطابه التاريخي العاطفي، ربما لأنه يرغب فيما هو أقوى من هذا، وتحديدا السعي الجاد والفوري نحو "نهضة أوروبية". نهضة تكرس قوة القارة وتمنحها مرونة تحتاج إليها في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى.
الهدف ببساطة، هو إعادة تشكيل الحضارة الأوروبية سياسيا وثقافيا في عالم متغير، وفق الرئيس الفرنسي. وهذا الأخير كان قد سبق حراكه "النهضوي" هذا، بموقف لاشك في أنه سيشكل الأساس لهذه النهضة. إنه يسعى إلى جيش أوروبي موحد، لا ينال من حلف شمال الأطلسي "الناتو"، بل يؤطر القارة الأوروبية بصورة عسكرية "وطنية" خالصة إن جاز التعبير. لا تهتم باريس كثيرا بالرأي الأمريكي حول معظم القضايا المطروحة، وهذه صارت استراتيجية غير معلنة منذ عشرات السنين. فحتى عندما كانت فرنسا تحت الاحتلال الألماني، وتحتاج إلى جهود أي جهة للتحرير ضمن التحالف الشهير، وقف الرئيس الفرنسي السابق تشارل ديجول رافضا أي دور استعراضي للولايات المتحدة في عملية تحرير بلاده.
فرنسا "الأم الأوروبية المصممة"، تريد نهضة للقارة، لا تشبه غيرها. وهناك إرادة حقيقية لدى بعض البلدان من أجل الوصول إلى هذا الهدف، وفي مقدمتها ألمانيا، ذلك البلد الذي يحب دائما أن يكون "المتحمس" الأوروبي الأول، لأسباب تاريخية يعرفها الجميع، ولأهداف أوروبية سامية بالفعل. القارة يمكنها أن تحقق ذلك، وتعيد إطلاق نفسها ككتلة عصية على أي محاولة لضعضعتها، خصوصا في ظل وجود آليات تصنع النهضة التي يريدها ماكرون، التي أرادها معه كل من سبقه إلى قصر الإليزيه. ولتخرج بريطانيا آخذة معها "فيتوها" العالمي. فللاتحاد الأوروبي "فيتوهه" الفرنسي، مع نهضة أوروبية شاملة، إن تمكن سكان القارة من صناعتها وحملها.

إنشرها