Author

الإدارة الرشيدة للمالية العامة في العالم العربي «1من 2»

|

تقوم رؤية الغد الأفضل على الرخاء المشترك بين الجميع، الذي يعود بالنفع على الفئات الفقيرة والطبقة المتوسطة، وعلى المواطنين والمهاجرين سواء بسواء؛ كما تقوم على الفرص المفتوحة للجميع، بمن فيهم النساء. إنها رؤية تغلب العدالة على المحسوبية والتحيز، وترتكز على الثقة في أن سياسة الحكومة تستهدف المصلحة العامة.
هي رؤية كبيرة. ولكن كما قال الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ذات مرة: "كلما كبرت الرؤية، كبر معها إنجازك.. ولم يكن الخوف ليبقينا صغارا. بل يجب أن نتحلى بالشجاعة لكي نصبح كبارا".
وكما تعلمون جيدا، فإن سياسة المالية العامة تسهم بدور حيوي في إيجاد وتعزيز هذه الرؤية للنمو المستدام والاحتوائي، خاصة على النحو الذي تلخصه "أهداف التنمية المستدامة". ويرجع هذا إلى أننا نحتاج إلى حيز مالي للإنفاق على الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية والاستثمار العام، وكلها أولويات أساسية في هذه المنطقة.
ولهذا أردت أن أعود إلى "منتدى المالية العامة في الدول العربية"، للمرة الرابعة الآن. وفي السنوات السابقة، تحدثت بالتفصيل عن سياسة المالية العامة (إجراءات الإنفاق والإيرادات اللازمة لتحقيق النمو المستدام والاحتوائي). وهذا العام، أود الوصول إلى مستوى أعمق، إلى أسس سياسة المالية العامة وإدارتها الرشيدة.
لأنه بدون أساس مستقر، فإن أفضل السياسات يمكن أن تتعثر. ستفتقر سياسة المالية العامة إلى المصداقية.
ومن هذا المنطلق، سأتناول ركيزتين أساسيتين من ركائز الإدارة الرشيدة للمالية العامة: الأطر القوية للمالية العامة؛ والحوكمة الرشيدة والشفافية.
وقبل أن أتطرق إلى هذه المسألة، اسمحوا لي ببضع كلمات عن السياق الاقتصادي الأوسع الذي يؤثر في سياسة المالية العامة في المنطقة.
من سوء الحظ أن المنطقة لم تحقق بعد التعافي الكامل من الأزمة المالية العالمية وغيرها من الاضطرابات الاقتصادية الكبيرة التي سادت العقد الماضي.
فبين البلدان المستوردة للنفط، حقق النمو تحسنا، لكنه لا يزال دون مستويات ما قبل الأزمة. ولا تزال عجوزات المالية العامة كبيرة، كما ارتفع الدين العام بسرعة، من 64 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في 2008 إلى 85 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بعد ذلك بعشر سنوات. ويتجاوز الدين العام حاليا 90 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في نحو نصف هذه البلدان.
وقد حققت البلدان المصدرة للنفط تعافيا كاملا من صدمة أسعار النفط الكبيرة التي واجهتها في 2014. ولا يزال النمو متواضعا، لكن الآفاق تتسم بدرجة كبيرة من عدم اليقين، فيما يرجع جزئيا إلى ضرورة أن تتحول البلدان بسرعة إلى استخدام الطاقة المتجددة على مدار العقود القليلة القادمة، تماشيا مع اتفاقية باريس. ومع انخفاض الإيرادات، لا ينخفض عجز المالية العامة إلا ببطء، رغم الإصلاحات الكبيرة على جانبي الإنفاق والإيرادات، بما في ذلك تطبيق ضريبة القيمة المضافة والضرائب الانتقائية على السلع. وأدى ذلك إلى زيادة حادة في الدين العام، من 13 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في 2013 إلى 33 في المائة في 2018.
وفي هذه الآونة، نشهد تراجعا في التوسع العالمي وتصاعدا في المخاطر. وقد أصدرنا منذ بضعة أسابيع تنبؤاتنا الاقتصادية المعدلة. ونحن نرى الآن أن الاقتصاد العالمي سيحقق نموا بمعدل 3.5 في المائة هذا العام، بانخفاض قدره 0.2 نقطة مئوية عما توقعنا في أكتوبر الماضي. والمخاطر الآن أعلى، نظرا لتصاعد التوترات التجارية وزيادة ضيق الأوضاع المالية. ولا غرابة إذن في أن يكون لتراجُع البيئة العالمية تداعيات على المنطقة من خلال مجموعة من القنوات (التجارة، وتحويلات العاملين، والتدفقات الرأسمالية، وأسعار السلع الأولية، وظروف التمويل).
وخلاصة القول هي أن المسار الاقتصادي القادم للمنطقة محفوف بالتحديات، وهو ما يزيد من صعوبة المهمة التي تؤديها سياسة المالية العامة، ومن ثم زيادة أهمية بناء أسس قوية ترتكز عليها هذه السياسة.
وأول لبنة في هذا الأساس هي إطار المالية العامة السليم. وأعني بهذا مجموعة القوانين والترتيبات المؤسسية والإجراءات اللازمة لتحقيق أهداف سياسة المالية العامة لبلد ما. ويسمح مثل هذا الإطار للحكومات بالتخطيط لميزانياتها على المدى المتوسط بصورة تعكس أهدافا واضحة ومتناسقة وذات مصداقية.
وهناك مجال لتحسين أطر المالية العامة في المنطقة. ومن مواطن الضعف في هذا الصدد الرؤية قصيرة المدى ونقص المصداقية.
وبالنسبة للرؤية قصيرة المدى، فنظرا لأن النمو الاحتوائي والمستدام هو هدف متوسط الأجل بطبيعته، تحتاج سياسة المالية العامة إلى توجه متوسط الأجل. والتركيز على الأفق الآني يزيد من صعوبة تنفيذ الإصلاحات التي تتسم بالأهمية، ولكنها أطول أجلا في مجالات مثل معالجة ارتفاع فاتورة أجور القطاع العام، وتصميم نظم فعالة للحماية الاجتماعية، والتخلص من الدعم الضار على أسعار الوقود. وتعني الرؤية قصيرة المدى أن سياسة المالية العامة تضخم موجات الانتعاش والركود بدلا من أن تروضها، ما يزيد من صعوبة تحقيق النمو المستدام والاحتوائي.
وهنا أنتقل إلى مصداقية المالية العامة. وأشير إلى عوامل مثل مبالغ الإنفاق الكبيرة التي لا تدرج في الميزانية وضعف إدارة المخاطر. وفي مختلف أنحاء هذه المنطقة، يشيع توجيه موارد الثروة السيادية لتمويل المشاريع بشكل مباشر، دون المرور على عملية الموازنة العادية. وهناك مؤسسات مملوكة للدولة في بعض البلدان لديها مستويات عالية من الاقتراض - خارج الميزانية أيضا.

إنشرها