Author

«بيتكوين» والعملات الرقمية .. مع أو ضد «1»

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى


كتبت مقالات سابقة عن العملة الرقمية "بيتكوين" خصوصا، وذلك في فترة شهدت مضاربات خطيرة جدا، خطيرة على أولئك المستثمرين الصغار، خطيرة في الربط بين ثروة في اقتصاد حقيقي وثروة في اقتصاد افتراضي، خطيرة بقدر ضعف المعلومات التي يملكها بعضنا عن هذه العملة الإلكترونية. لكن تلك المقالات النقادة والمحذرة ليست ضمن سياق رفض العملة الإلكترونية، ولتوضيح كل ذلك تأتي هذه المقالات ضمن سلسلة تهدف إلى الكشف عن مفهوم العملات في الإنترنت.
المشكلة الأساس في فهم عملات الإنترنت هي المشكلة الناشئة نفسها من فهم العملات بشكل عام ودورها في الاقتصاد، ولهذا لابد من العودة للحديث عن العملات قبل خوض غمار العملات الرقمية عموما، الأصل أن الناس "ليسوا" في حاجة إلى العملة، العملة لا يمكن أن تؤكل أو تشرب أو تلبس أو تقدم أي خدمة ضرورية للحياة، نحن البشر نحتاج إلى السلع والخدمات فقط، إذا ما هذه العملة؟ يقال: إن العملة مخزن للثروة وهذا عندي صحيح جزئيا، لكن ما الثروة أولا؟ الثروة هي ما تنتجه قوة العمل، بشكل أساس، ولا أريد أن أقحم هذا المقال في هذه الجدلية خصوصا، لكن يهمني أن يدرك القارئ أن الثروة هي فائض إنتاج العمال، ونحن ننتج العمل الذي نحتاج إليه في الحياة من سلع أو خدمات، ونستهلك جزءا هو الدخل ونستبقي جزءا يعد الثروة التي يمكننا الاحتفاظ بها أو استبدالها مع ما نحتاج إليه من فائض إنتاج الآخرين، وإذا كان هناك فارق زمني بين ما نبيعه من الثروة التي بأيدينا وما نستبدله مع ثروة الآخرين فإننا في حاجة إلى أداة ورسالة ثقة للآخرين، أداة تنقل الثروة عبر الزمان والمكان من السلعة التي بأيدينا إلى السلعة الجديدة أو من الثروة التي بأيدينا إلى الثروة الجديدة، هذه الآلة الزمنية هي العملة. ما أود قوله هنا: إننا نستحق من الثروة "وبالتالي العملة" بقدر ما ننتج من قوة العمل، أو "من منظور رأسمالي" بقدر ما نستخدم من قوة العمل لإنتاج الثروة. وفي مصنع من العمال، فإن كلا منهم يستحق من الثروة بقدر ما أضاف من قوته للإنتاج.
نحن نفهم اليوم أن الثروة تختزن في الذهب "وهو معدن أو قل مجرد حجر" لهذا فهو لا يستهلك كمنفعة بذاته ولذا ليس بثروة بل هو مرآة للثروة، ولك الحق في أن تفكر وتظن "وفقا لهذا الفهم" أن حجم العمل الذي ينتجه البشر في السلع والخدمات في العالم يجب أن يعادل حجم العمل الذي ينتجه العمال في مناجم الذهب وذلك حتى تبقى الثروة في العالم في حالة توازن، ويصبح هناك معنى لما يقومون به. هذه العبارة الأخيرة مهمة جدا ويجب أن نحتفظ بها معا للفقرات التالية.
لا شك أن ظهور العملة الورقية قد أفقد الثروة كثيرا من معناها السابق، فكمية العملة التي يمكن أن تختزن الثروة في العالم كانت تتحدد بجهد المناجم، لكن مع ظهور الورق أصبحت بجهد المطابع، وهذا معناه تضخم الثروة أو القيمة، لكن يجب أن أضع نقطة مهمة جدا، أن تدخل الآلة في طباعة العملة لم يكن مصادفة، بل هو توازن طبيعي فقبل انتشار الورق كعملة كانت الآلة قد أصبحت تنتج الثروة أيضا ولم يعد العمال فقط، بمعنى آخر فإن دور العمال كان يقل باستمرار كلما دخلت الآلة إلى الإنتاج، وكان دور الذهب يتقلص أيضا بالحجم نفسه كعملة، وأصبحت الثروة تقاس بقدر الورق والذهب معا، بقدر دور الآلة والإنسان في الإنتاج معا، ولو تأملت لاكتشفت أنك تستطيع تحويل الورق إلى ذهب بقدر المساحة من العمل التي بذلتها في الإنتاج، وهذا صحيح على مستوى الدول.
ولأن الآلة تريد من الثروة ما يبقيها تعمل، وهو إنتاج آلة أخرى، ومع تزايد الآلات تضاعف حجم الإنتاج وتضاعفت القيمة بشكل هائل، ولم يعد الذهب ولا حتى الورق قادرا على أن يعكس حجم الثروات التي أنتجتها الآلات "أو لم يعد من المهم ذلك"، فالآلة لا تريد ذهبا ولا ورقا بل تريد آلة أخرى تظل تعمل باستمرار، إنه الاقتصاد. ولهذا نفهم كيف انفصل الذهب عن الاقتصاد، ولم يعد بالإمكان أن تطبع العملة بقدر الذهب المخزون في الدولة أو ما يقابلها، ذلك أن حجم الإنتاج والاقتصاد والآلات التي تتبادل فيما بينها أصبح أضخم بكثير من حجم إنتاج الناس واحتياجاتهم، ولهذا فقد ظهر مفهوم الناتج المحلي، GDP وهو عبارة عن القيمة السوقية لكل السلع النهائية والخدمات التي يتم إنتاجها في دولة ما خلال فترة زمنية محددة، إنه إجمالي ثروة الأمة التي أنتجتها بكل آلاتها وعمالها، وأنت تحصل على نصيبك منها بقدر راتبك الشهري أو دخلك السنوي عموما، وآلات بقدر ما يبقيها تعمل، ولأن جزءا كبيرا بل ضخما من هذا الناتج قد جاء من الآلة التي تأخذ قليلا للصيانة والبقاء وتخزن باقي إنتاجها في حسابات تسمى مخصصات الإهلاك، ولأن البشر أيضا لا يستخدمون جميع إنتاجهم لشراء إنتاج الآخرين ويفضلون تخزين فائض أجورهم في حساباتهم المصرفية، لهذا وجدت الحكومات أنه لا داعي لأن تطبع كل هذا الإنتاج الضخم من الثروة في شكل عملة ورقية لن تستخدم، لهذا يطبعون فقط ما يحتاج إليه الناس للتداول بينهم، وهذا أوجد واقعا اقتصاديا فريدا على البشر، هناك أرقام "تسمى عملة" تقاس بها الثروة وتستعمل: أداة لنقلها عبر الزمان والمكان، لكن ليس بالضرورة أن تكون ملموسة أو لها مكان أو كيان أو شكل، ومع ذلك يمكننا أن نحولها إلى جميع الأشكال التي نريد، يمكننا أن نجعلها في شكل ورقي، أو سلعي أو حتى خدمات... يتبع.

إنشرها