Author

الرفيق «كيم» في بلاد الرفاق السابقين .. ليته يتعلم

|


حسنا فعلت واشنطن وبيونجيانج باختيارهما فيتنام مكانا لعقد القمة الثانية بين رئيسيهما من بعد قمتهما التاريخية الأولى في سنغافورة في يونيو الماضي.
فاختيار هانوي كمكان لهذه القمة، رغم المشقة التي كابدها زعيم كوريا الشمالية الأوحد "كيم جونج أون" بقطعه نحو أربعة آلاف كيلومتر للوصول إلى مكان الاجتماع عبر أراضي الصين، ربما كانت فيه رسالة أمريكية غير مباشرة للزعيم الكوري مفادها "انظر حولك وشاهد ما آلت إليه أوضاع فيتنام اليوم بعد أن خلعت رداءها الثوري الكالح ورمت بأوجاع ومآسي الماضي خلف ظهرها وراحت تتصالح مع نفسها والآخرين وفق منظور مستقبلي وبرامج تنموية شاملة" إلى درجة أن مراقبين كثرا يتوقعون لها صعودا مشابها للصعود الصيني في السنوات المقبلة، بعد أن لحقت فعلا بالنمور الآسيوية.
فبينما راح نظام آل كيم منذ زمن الأب كيم جونج إيل والجد المؤسس كيم إيل سونج يحارب طواحين الهواء، ويزرع بذور الشر والرعب، ويرفض مصافحة الأيدي الممدودة له لإشاعة الأمن والسلام والاستقرار في الشرق الأقصى، ويبني السجون ومصانع السلاح بدلا من مصانع الغذاء والدواء ومعاهد العلم في ظل حكم شيوعي متشدد، كان نظيره في فيتنام ينتهج نهجا معاكسا رغم كل ما عانته البلاد من ويلات الحروب على يد الأمريكيين ومن قبلهم اليابانيين والفرنسيين.
هنا يبدو الفارق بين من يُحكم العقل والمنطق وينظر إلى المستقبل لخير شعبه بدلا من التمسك بالماضي، وبين من يحبس نفسه في قفص الأوهام والشعارات الجوفاء خوفا أو رهبة من رياح التغيير، فتكون المحصلة مزيدا من العزلة والتخلف عن ركب العالم وتطوراته الحضارية.
لقد وهب القدر الفيتناميين بعد تحرير أرضهم من آخر جندي أمريكي وتوحيد شطري بلادهم في سبعينيات القرن الماضي قادة شيوعيين لكن من نمط آخر مغاير لآل كيم في كوريا الشمالية. هؤلاء لم يجدوا غضاضة في فتح أبواب بلادهم مجددا للعدو الأمريكي السابق وعقيدته الرأسمالية، طالما أن الأمريكي سيحمل معه إلى فيتنام هذه المرة الأموال والاستثمارات والتكنولوجيا بدلا من الدبابة والمدفع.
وفي اعتقادي أن قادة فيتنام الجدد تعلموا الدرس من اليابان وألمانيا اللتين بدأتا البداية الصحيحة في أعقاب هزيمتهما المرة والمكلفة. وقد تمثلت البداية الصحيحة هذه في التصالح مع الأعداء السابقين أولا، واستثمار كثير من قيمهم ومساعدتهم في إعادة البناء ثانيا، والتخلي عن أوهام القوة والهيمنة والشعارات الفارغة وعسكرة المجتمع ثالثا.
وبطبيعة الحال هناك من المؤدلجين من سمعتهم يقولون إن خطوات فيتنام لجهة الانفتاح على الولايات المتحدة ما كانت لتحدث لولا "تمريغها أنف العدو الأمريكي في الوحل وهزيمته في حرب غير متكافئة"، وكأنهم يدعون إلى قيام حرب أمريكية - كورية شمالية تنتصر فيها الأخيرة كي يمهد ذلك لتغيير بيونجيانج نهجها على شاكلة ما حدث في هانوي.
أمثال هؤلاء، من بقايا اليسار و"الثورجيين"، لهم عذرهم في تسطيح الأمور بهذا الشكل لأنهم ببساطة يعيشون في عزلة تامة عما يحدث على الأرض الفيتنامية من متغيرات لافتة للنظر منذ عام 1986 حينما اتخذ قادتها قرارا تاريخيا بانتقاد أخطائهم وتقييم إنجازاتهم وإخفاقاتهم، الأمر الذي أفضى إلى السير بخطوات عملية مدروسة نحو التنمية والعولمة واقتصاد السوق وتشجيع التصدير والانفتاح على واشنطن والغرب ودول آسيان، فكانت النتيجة أن تحولت البلاد من أفقر دولة في العالم إلى دولة واعدة صاحبة اقتصاد ديناميكي متنوع، وتحسنت فيها مستويات المعيشة وانخفضت بها معدلات التضخم، وترسخت أوضاعها السياسية، وتوثقت علاقاتها مع سائر دول المعمورة. وتجاوزت معدلات نموها السنوية 7 في المائة.
في قمة سنغافورة أبدتْ واشنطن استعدادها لطي صفحة الماضي مع نظام بيونجيانج وإعادة تأهيله سياسيا واقتصاديا ليصبح عضوا مقبولا في المجتمع الدولي، شريطة أن يتخلى عن قدراته النووية والباليستية وتهديد جيرانه. لكن بيونجيانج لئن أعلنت تخلصها من بعض مواقعها النووية وأوقفت تحرشاتها بجارتيها الكورية الجنوبية واليابانية، فإنها لم تدمر كل مواقعها النووية ولم تتح فرصة التحقق من ذلك. وعليه فرض الموضوع نفسه مجددا على قمة هانوي وربما سيبقى كذلك في قمم أمريكية - كورية شمالية قادمة خصوصا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ليس في عجلة من أمره - كما قال في إحدى تغريداته الأخيرة: ولن يخسر شيئا، فيما الخاسر هو "كيم" الذي يضيع على بلده وشعبه فرصة الخروج من عنق الزجاجة بضمانات أمريكية غير مسبوقة. وعلينا هنا أن نتذكر أنه طالما بقيت العلاقات الأمريكية - الصينية متوترة لهذا السبب أو ذاك فإن بيونجيانج، مدفوعة ومدعومة من بكين، لن تغير سياساتها بسهولة. وهنا يجب أن نتذكر أيضا أمرا معاكسا هو أن من ضمن العوامل التي شجعت الفيتناميين على التعاون المثمر مع الأمريكيين والغرب بصفة عامة هو علاقاتهم المتوترة مع الصين التي بلغت حد اصطدامهما عسكريا في حرب دارت لمدة شهر عام 1979.

إنشرها