Author

تطبيق مالية إسلامية لا يمنع الأزمات المالية

|
كبير الاقتصاديين في وزارة المالية سابقا


تظهر بين وقت وآخر كتابات وأقوال مفادها بأن تطبيق نظام مالي لا يخالف الشريعة كفيل بمنع وقوع الأزمات المالية. وهذا مجرد ادعاء ليس عليه دليل شرعي أو عقلي.
من المفيد جدا التنبيه بداية على أن المصائب، ومنها الأزمات المالية والاقتصادية، إنما هي من الناس، يقول المولى سبحانه: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" الآية 30 من سورة الشورى. ويقول مخاطبا نبيه "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك". وهذا وحده يثبت أن المجتمع الإسلامي عرضة للمصائب، لأنه ليس بمجتمع معصوم عن ارتكاب الذنوب والمعاصي الكبائر منها والصغائر. وأهل السنة لا يكفرون بمجرد ارتكاب المعاصي، ومعروف أن المكفرين هم الخوارج.
ورغم الإيمان بما سبق، إلا أنه لا يمنع من البحث في الأسباب المادية، مثلما أننا نؤمن بأن المرض والشفاء من الله، وبأن المرض مصيبة من المصائب المشمولة بالآيات السابقات، وما كان ذلك مانعا من البحث في أسباب المرض وطلب العلاج.
يمكن قبول الادعاء بأن تطبيق الشريعة في المعاملات المالية يمنع وقوع الأزمات المالية لو كانت أسباب نشوء وحدوث تلك الأزمات محصورة في الممارسات المالية المحرمة شرعا وليس قانونا. ولكن الأمر ليس كذلك. فالأزمات المالية والاقتصادية يمكن أن تحدث لأسباب أخرى، وهي أسباب ممكن أن توجد في الاقتصادات التي تطبق الشريعة، مثلا من الممكن أن تتسبب ظروف أو أخطاء في حصول أزمة اقتصادية من نوع ما. ومن الممكن أن تحدث بسبب ممارسات غير مشروعة، ليس في الشريعة فقط، بل حتى في القوانين الوضعية، كالرشا والغش والفساد الوظيفي بصفة عامة. هذه قابلة للحدوث حتى في مجتمع يطبق الشريعة، لأن أفراد المجتمع، كما أسلفت، ليسوا معصومين عن ارتكاب المعاصي، وضعف النفس البشرية وحب المال موجود في المسلمين كغيرهم. ولا ننسى الابتلاء، يقول سبحانه "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال" الآية 155 من سورة البقرة.
ويسيء البعض فهم معنى وطبيعة الممارسات الضارة وحدود منعها في الدول التي لا تطبق الشريعة. لنأخذ، مثلا الاحتكار.
أولا هناك اختلاط في الفهم. مفهوم الاحتكار في الاقتصاد المعاصر مأخوذ من الغرب، ويدور حول الانفراد monopoly، وهو مفهوم لا يتطابق مع المعنى اللغوي للاحتكار، الذي يدور حول حبس السلعة وتعمد تأخير بيعها انتظارا للغلاء، وهو المفهوم الذي يستند إليه كلام الفقهاء السابقين -رحمهم الله تعالى. صحيح أن بين المعنيين تداخلا أو اشتراكا جزئيا، أو ما يسمى في أصول الفقه بالعموم والخصوص الوجهي، أي إنهما لا يعنيان شيئا واحدا دوما.
في لقاءات كثيرة قيل إن الاحتكار، بالمعنى السابق المنتشر، إحدى ساقين تقوم عليهما الرأسمالية الغربية الأساسية. هذا القول غير صحيح؛ إذ ليس الاحتكار من أركان الرأسمالية، ونحن مأمورون بالعدل في الحكم على الآخرين.
تعني الرأسمالية نظاما اقتصاديا يستند إلى هيمنة الأفراد والقطاع الخاص على ملكية وسائل أو عناصر الإنتاج كرأس المال والعمل والأرض، بغرض الربح. ويتبع ذلك أن أهم آلية تحدد توزيع الموارد والاستثمار والأسعار هي السوق، ولذا تسمى الرأسمالية أحيانا باقتصاد السوق.
واتخذت الرأسمالية صورة مؤسسية قانونية في الغرب خلال الفترة بين القرنين الـ17 والـ19، وهي الفترة التي شهدت الثورة الصناعية، التي صحبتها تغيرات سياسية وثقافية واجتماعية. وكان النظام الإقطاعي هو السائد في الغرب قبل الرأسمالية.
رأي سائد لدى عدد من المؤرخين الغربيين أن احتكاك الغرب بالمسلمين إبان ازدهار الحضارة الإسلامية كان له أثر كبير في تعريف الغرب باقتصاد السوق والملكية الفردية. وهذه أهم مبادئ تقوم عليها الرأسمالية. أما في الوقت الحاضر، فتوصف عامة اقتصادات العالم، وعلى رأسها الاقتصادات الغربية بأنها اقتصادات مختلطة mixed economies. وعلى هذا فإن النقاش حول الرأسمالية بالصورة القديمة ليس له قيمة تحليلية في الوقت الحاضر. ويخطئ من يتحجج ضد الرأسمالية المعاصرة بأقوال عفا عليها الزمن لآدم سميث وغيره من السابقين.
كيف ظهر الاحتكار؟ طبيعة التوسع والتطور الصناعي والتقني في الغرب منذ منتصف القرن الـ19 الميلادي حفزت منشآت إلى تكوين تكتل trust لتسهيل أعمالها وزيادة أرباحها. وقد جنحت هذه التكتلات إلى التضييق على دخول المنافسين بهدف إبقاء الأسعار أعلى من الأسعار التنافسية، هذه الأحداث دفعت المشرعين في الدول الغربية إلى إصدار قوانين سميت antitrust وتعني مكافحة التكتل والاحتكار. وهي قوانين أقوى من الموجودة في البلدان الإسلامية.
يجب التفريق بين كون ممارسات بعينها من ضرورات ومستلزمات وجود نظام بعينه، أو أنها نتاج سوء ممارسة، أو أنها سلبيات أنتجتها التطورات لاحقا أو سوء التطبيق. وعند وجود سوء الممارسة والسلبيات المصاحبة للتطبيق يلجأ إلى وضع القيود، وهذا موجود في كل زمان ومكان. ومن أوضح الأمثلة في تاريخنا الإسلامي ما فعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفعله كذلك غيره بوضع قيود على تصرفات أصلا مباحة، حينما رأى في الناس سوء تصرف، أو رأى أنها استغلت على غير وجهها. هذا وبالله التوفيق.

إنشرها