المشراق

الجسد كمنتج ثقافي .. من الصحة إلى الجمال ثم الهوية الذاتية

الجسد كمنتج ثقافي .. من الصحة إلى الجمال ثم الهوية الذاتية

تحتفظ الذاكرة الشعبية بمخزون لغوي ومنتج أدبي عن أجزاء الجسد، حيث تضع معاني الكرامة في الأنف، والجمال في الشعر والأسنان والعيون، والعز في الطول. وتخضع هذه المعاني للتحولات في ثقافة العصر الذي ينتج معانيه عن الجسد.

الجسد كظاهرة اجتماعية:
كان للجسد وظيفتان اجتماعيتان:
الأولى: أن الإنسان العادي في المجتمع التقليدي كان يتولى إدارة جسده بعفوية وفق ما تفرضه عليه الظروف والعادات، ومن أبرزها أن أعمال المنزل والمزرعة والرعي تعتمد على أحد أفراد الأسرة ذكورا وإناثا، ولذلك فهم دائمو الحركة، وانعكس هذا إيجابيا على سلامة صحته من بعض الأمراض مثل السمنة والكوليسترول والضغط، ولكن بناء جسده غير متكامل، وإنما يتركز في بعض عضلات جسده وبشكل غير متناسق غالبا، وكثير من الناس في المجتمع التقليدي لا يهتمون بالمظهر الاستهلاكي، أي الاهتمام بلبس الزينة، بقدر اهتمامه بتجاوز ضغوط الحياة الاقتصادية.
الثانية: أن المجتمع يمنح قيمة جمالية عالية لقيم الطول وتناسق الجسد، ويعدونها من أدوات الهيبة الاجتماعية، يقول ابن لعبون:
والا فراعي نجد من قابله هاب
مصقول مثل السيف ما ينلعب به
لذلك يحافظ الإنسان على جماليات جسده بوصفها رأسمال اجتماعي.
تشير "موسوعة علم الاجتماع" إلى أن دراسات الجسد دخلت إلى علم الاجتماع متأخرة، وبدأت بجهود ميشيل فوكو، وتسعى دراسات الجسد إلى دراسة الناس وتحليلهم بوصفهم أشخاصا متجسدين في أجسام، وليسوا مجرد أفراد لهم قيم واتجاهات، لذلك اهتموا بالتعرف على المعاني الثقافية المتباينة المرتبطة بالأجساد، وأساليب ضبطها، ومن أبرز موضوعات دراسات الجسد في علم الاجتماع: الصحة والمرض والرقص والرياضة. كما برزت الاهتمامات أخيرا بظاهرة تجميل أجزاء من الجسد من خلال التدخل الطبي.
هل يصح أن نرى الجسد وأجزاءه بوصفها رأسمال اجتماعي، يستثمر صاحبها في جسده صحيا وجماليا؟ إن الذاكرة الشعبية سابقا، والوعي بالحياة الآن يؤكدان وجود أجزاء معينة من الجسد تحمل معها قيما اجتماعية واقتصادية كثيرة، مثل: الأنف والشعر والطول والأسنان ولون الجلد والعين.

المعنى الشعبي للصحة والجمال:
الناس هي من تمنح الأشياء معانيها، ومن ثم تحدد قيمة الشيء بحسب قوة المعنى الذي يحمله، فالأسنان لم يكن لها معنى جمالي بين الأجيال السابقة، إلا في حدود ضيقة، وبالتالي انخفضت قيمة طب الأسنان في المجتمع، وفي السنوات الأخيرة منح المجتمع معاني صحية وجمالية ووجاهية كبيرة للأسنان، ومن ثم ارتفعت قيمة مضامين الأسنان اجتماعيا، وازدهر بسبب هذا التحول الاجتماعي في رؤية الأسنان سوق اقتصادية ضخمة تقدر بمليارات الدولارات سنويا. والشعر أيضا كان جماله متركزا على الشعر الطويل الأسود، ثم صارت ثورة قيمية فرضت جميع الأطوال والألوان، وفتح المجال لسوق اقتصادية وتسويقية ضخمة. ومن هنا تبرز أهمية رصد التحولات الاجتماعية من خلال تغير القيم ورؤية الحياة عبر الأجيال.
لجمال الأسنان علاقة كبيرة بالوعي الصحي، والتغير الدلالي لجماليات الأشياء في المجتمع، وهي تصلح لأن تكون مؤشرا على تحسن جودة الحياة، ورؤية الإنسان للعالم من حوله، ويمكن قياس التحولات الاجتماعية من التحولات في التفاعل مع الأسنان. وإذا كان للجسد لغة فإن لغة الأسنان تمثل أهم أشكال التواصل الاجتماعي بين الغرباء، وهي التي تترك الانطباع الأولي عن مستوى الصحة والنظافة.

التحولات الثقافية في الصحة والجمال:
يوجد ارتباط وثيق بين الثقافة الشعبية ورؤية الناس العاديين للأشياء، وبين الاقتصاد. إذ كلما تغيرت ثقافة المجتمع نحو سلعة أو خدمة تغيرت معها قيمة هذه السلع أو الخدمات، حيث تندثر السلع والخدمات أو تزدهر بحسب ترتيب أهميتها في الوعي الثقافي الشعبي.
يمثل جيل الثمانينيات وما قبل مرحلة انتقالية كبرى في تحولات الثقافة الشعبية نحو الجسد، إذ كان الشعر الأسود الطويل، والعيون السود الواسعة، تمثل السمة الثقافية الشعبية لمعاني الجمال، وترسخت هذه المعاني بقوة الأمثال الشعبية والأشعار الغزلية.
ومن المنظور الصحي يلحظ أنه زمن الثمانينيات الميلادية كانت السيادة في الثقافة الشعبية لعيادات الباطنية، نظرا لتعرض المجتمع لطفرة اقتصادية كبيرة ومفاجئة، فزادت ظاهرة انتشار اللحوم والأرز في وجبتي الغداء والعشاء، وهو الأمر الذي انحرم منه جيل الآباء والأجداد، فزادت معها أمراض الباطنية، وكثرت عياداتها في المستشفيات، وانتشرت كعيادات خاصة في الشوارع الرئيسة، وبعدما زاد الوعي الصحي بالتوازن الغذائي وتنوعه وإضافة الفواكه والخضار للسفرة، قل احتياج الناس إليها، وأغلقت كثير من عيادات الباطنية، وقلص عددها في المستشفيات.
وتوسعت مفاهيم الجمال وتغير كثير من معانيه في زمن التسعينيات الميلادية، إذ برزت ظاهرة جماليات الجلد، وانتشرت فكرة أن الجلد يمكن تجميله بالشد وبالعمليات الصغيرة والتنعيم المستمر بأنواع الكريمات الكثيفة، بعدما كان تخصص الجلدية مقتصرا على علاج الحروق والجروح العميقة في المستشفيات والطوارئ، وما تزال الحاجة إلى عيادات الجلدية مستمرة. ودخل معها جماليات الشعر الملون والقصير، وعدسات العيون الملونة، وجماليات الأسنان.
تؤكد التحولات حول الجسد أنه ظاهرة ثقافية تخضع للثقافة السائدة حول الجسد أو أحد أجزائه في زمن محدد ومجتمع معين، وتخضع سرعة التحولات الثقافية لعناصر كثيرة كالاقتصاد ومتابعة "الموضة الثقافية" والتعرض لوسائل التواصل والأفلام ومحاكاة المشاهير.

الأسنان كمنتج ثقافي:
في زمن الألفين وما بعد برزت ظاهرة جماليات الأسنان، واستهدفت جميع فئات المجتمع العمرية، وطبقاته الاقتصادية والجندرية (الذكور والإناث)، ما أتاح لها أن تكون فكرة لن تندثر على المدى القصير، ولارتباطها بالعولمة والوعي الشعبي، لذلك ظهرت كليات الأسنان الأهلية لتلبي حاجة السوق، وظهرت سلسلة عيادات للطبقات الوسطى والفقيرة وعيادات للنخب.
سوف نحلل في هذه المقالة قصة حياة السن وتحولات موقف المجتمع منه، وسوف يتبعه مقالات أخرى عن المعاني الشعبية للجسد وأجزائه.

الأسنان في التاريخ القديم:
للأسنان تاريخ عريق متجذر في ذاكرة جميع الحضارات القديمة، وقد كشفت البحوث الأثرية عن استخدامات الأسنان في التجميل والعلاج، وكذلك السحر منذ آلاف السنين عند الحضارات السومرية والآشورية والفرعونية واليونانية والهندية والعربية، ويعد الفكان من أهم المعثورات الأثرية لبقايا الإنسان القديم، ومن أبرز محددات الحقب الزمنية للبشرية، لمحافظتها على شكلها وعدم تآكلها عبر القرون، والأسنان الآن تعد أحد مؤشرات التحولات الاجتماعية وعولمة المجتمع.
وقد اهتم علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا بالأسنان، بوصفها ظاهرة اجتماعية ولها تأثير في تشكيل الهوية الذاتية وتأثير مباشر في ترك صورة ذهنية لدى الآخرين، ومن المؤلفات الاجتماعية الخاصة بالأسنان كتاب "أنثروبولوجيا الأسنان: الأسنان البشرية من منظر بيوثقافي" (2009) لمصطفى عوض إبراهيم.

الأسنان في قيم الصحة والمرض:
كان للأسنان في الذاكرة الشعبية وظيفة عملية وليست جمالية، خاصة بالنسبة للذكور، أي أنها تستخدم لأغراض الأكل والشرب وقطع الأشياء الخفيفة، وتستخدم أحيانا كسلاح للعض في حالات الشجار، ولهذا يكثر استخدام مصطلح الضرس قبل أن يشيع مصطلح السن ليعبر عن جميع الأسنان، ويقال في الأمثال الشعبية "لا هم إلا هم العرس، ولا وجع إلا وجع الضرس"، لأن آلام التسوس أو نزع السن لا تخدير فيها، ويقال "فلان ضرس"، لمن يأكل بشراهة. ويبدو أن استبدال المصطلح من ضرس إلى سن يعود لأسباب جمالية، لارتباط مصطلح الضرس بالمجتمع التقليدي وأمراض الفم وعدم العناية به، في حين أن مصطلح السن خفيف النطق وليس له صورة ذهنية مسبقة، فسهل تقبل عيادات الأسنان ومبادراتها التجميلية، إضافة إلى أن الضروس جزء من كل، في حين أن الأسنان تطلق على المجموعة المكونة من الضروس والضواحك والناب.
وعلى الرغم من وقوع الأسنان في جماليات الصورة الذهنية إلا أنه لا يوجد تقنيات لتنظيفها غير السواك والماء، وفي حال تعرض الأسنان للألم الخفيف فتعالج بوضع قليل من القرنفل المطحون (ويسمى العويدي والمسمار) على مكان الألم بوصفه مخدرا طبيعيا، ويخلع في الحالات المتقدمة. ونظرا لعدم وجود أي قيمة اجتماعية للأسنان عند الطبقات الشعبية، فقد انتشرت أمراض الأسنان واللثة كالتسوس ونزف اللثة، وكثر خلع الأسنان وترك مكانها خاليا.
ولعمليات خلع الأسنان في مجتمعنا حكايات تروى، فإذا كانت ستجرى في المنزل لإزالة الأسنان اللبنية للأطفال الذين تأخر سقوطها، فإن المعالج، وغالبا ما يكون الأب، يربط السن بطرف خيط دقيق ويربط الطرف الثاني بمقبض الباب، ثم يقوم بإغلاق الباب بقوة فيجذب معه السن، أما المتطبب فعادة يكون لديه أدوات حديدية تشبه الزرادية معدة لقبض السن بقوة ثم سحبه، وبطبيعة الحال فإن أغلب عمليات خلع الأسنان تتم في الشارع، ولا تسأل عن التعقيم والتخدير، لذلك خرج جيل معوج الأسنان.

جماليات الأسنان في التراث الشعبي:
وفي مرحلة الحداثة في المملكة بدأ ينظر المجتمع إلى جماليات الأسنان، وأنها جزء من شخصية الإنسان، وصار السن الذهب والبلاتين من علامات الجمال في المجتمع، ويدل على أناقة صاحبه وقدرته المالية، ويبدو أن سن الذهب كان يحمي اللثة من الالتهابات أكثر من أي عنصر آخر، وليس جماليا فقط.
واشتهر سن الذهب بين الفتيات ذوات البشرة السمراء، بوصفه من محددات جماليات الجسد، ورد في أغنية قديمة للفنان البحريني محمد راشد الرفاعي يقول فيها:
أسمر وبه سن الذهب مملوح
زوله إذا شفته يسليني
وتعد الأسنان من أبرز مكامن جمال المرأة التي يتغزل ببياضها ومصفوفتها الشاعر العربي قديما وحديثا.

معجم عيادة الأسنان التراثية:
نظرا لمحدودية أمراض الأسنان في جيل الآباء والأجداد، فقد كان المعجم القاموسي محدودا أيضا، وقد جمعت من بعض كتب التراث الشعبي مثل كتاب "تراث الأجداد" للقويعي، وكتاب "معجم الكلمات الشعبية" للمانع، مفردات قليلة، ولكن أكثرها لا يزال مختزلا في الذاكرة الشعبية للرواة وكبار السن.
من مسميات أمراض الأسنان المعروفة في التراث الشعبي ما يلي:
"مخرث": أي متآكل، وتقال للضرس إذا نخره السوس وللخشب إذا أكلته الأرضة.
ومن أبرز معدات عيادة الأسنان آلة "الجاز"، وتسمى "القاز"، وهي مقص من حديد، له شكلان وتشبه الزرادية، تستخدم واحدة منها لخلع الأسنان الخلفية "الضروس" والأخرى لخلع الأسنان الأمامية، وقد جاء مصطلح الجاز في الشعر الشعبي، يقول عبيد الرشيد:
وان كان لك ضرس مقزيك منخور
فحنا لكم جاز وللضرس خلاع

الأسنان في القيم الجمالية:
تغيرت القيم الاجتماعية تجاه الأسنان بسبب الرفاهية الاقتصادي وزيادة الوعي الصحي وارتفاع مستوى التعليم والرغبة في حسن تقديم الذات في الحياة اليومية، فصار الناس ينظرون للأسنان بوصفها هوية الإنسان ومن أهم أسس تقديم الذات في الحياة اليومية، وازدهرت عيادات الأسنان المزودة بالأجهزة الحديثة، بسبب التحولات في رؤية الحياة.

الأسنان في السوق الاقتصادية:
ربما أسهمت ممارسات المؤسسة الطبية (دعايات العيادات وشركات الأجهزة الطبية واستخدام المشاهير في الترويج لابتسامة جاذبة) في ضغوط على أصحاب الأسنان المعيبة والمكسورة والضعيفة والصبغية، بل والعادية، لحثهم على تجميل أسنانهم وحمايتها. واستطاعت أن تجعل من المجتمع معملا ضخما لترميم الأسنان وإصلاحها بالتلبيس والتلميع والزراعة، بعد أن كان الإنسان يكفيه أن يعيش بحشوات الأسنان أو خلعها. وقد ساعدها على تسهيل مهمة المؤسسة الطبية قدرة الإعلام وضغط الدعايات وتقديم المشاهير والطبقات الاجتماعية العليا بوصفهم النموذج المثالي الذي ينبغي أن تكون عليه الأسنان، ومن ثم تشكل خطابا طبيا قويا يثبت أن الأسنان جزء من هوية الإنسان وأحد أهم مكملات جماليات الجسد، حتى تحول هذا الرأي إلى حقيقة لا تقبل الجدل، ما فتح المجال واسعا لابتكار أسواقا اقتصادية تقاس بمليارات الريالات سنويا، تتمثل في انتشار عيادات الأسنان المتخصصة، بعد أن كانت عبارة عن عيادات علاجية داخل مستوصفات، وافتتاح كليات لطب الأسنان، وإحداث آلاف الوظائف للكوادر الطبية والإدارية في كل مجتمع، وقد أسهم ذلك في ازدهار صناعة تجميل الأسنان وتقنيات علاجها.

* علم اجتماع المعرفة “دراسات الحياة اليومية”
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق