ثقافة وفنون

حمى التصوير .. «مسرحة الحياة» طمعا في اعتراف الجمهور

حمى التصوير .. «مسرحة الحياة» طمعا في اعتراف الجمهور

دخلت الإنسانية في تطورها المستمر طورا جديدا، ربما عن غير وعي بذلك. فقد يحدث أن يزور المرء متحفا فنيا أو معرضا للكتب أو معلما تاريخيا أو غيرها، مما يستدعي التأمل والتفكير وإعمال العقل وإمعان النظر... ليقف بأم عينيه على حساسية هذا الجيل المفرطة تجاه التصوير؛ التي بلغت مستوى الهوس المرضي بالصورة. وأحيانا ينسى الفرد ما جاء من أجله، جراء استغراقه في التصوير الذي أضحى هدفا في حد ذاته.
أثارني، وأنا أتجول نهاية الأسبوع الماضي في أروقة أكبر معرض للكتاب في المغرب، اهتمام الزوار من مختلف الفئات العمرية بالتقاط الصور الذاتية والجماعية في كل ركن وناحية، بشكل يدعو إلى التساؤل؛ هل نحن فعلا في معرض للنشر والكتاب أم معرض لفن التصوير؟ حمى التصوير تلك لن تكون محل استغراب لو حدثت في حفلة موسيقية أو مباراة رياضية أو غيرها من أماكن الترفيه والاستجمام التي تعد مثل هذه الأمور جزءا أصيلا فيها.
لكنها قطعا ليست كذلك، حين تقع في رحاب معرض للكتب، بما يحمله من دلالات عملية ومعرفية ورمزية ثقافية، يفترض أن يكون قاصدوه من طليعة المجتمع ونخبته المثقفة الواعية، التي تحمل رسالة مجتمعية، وتمتلك حسا نقديا تجاه كل مستحدث ودخيل عليها. بل تصاب بالذهول، حين ترى أسماء ثقيلة في ميزان الثقافة والفكر في الساحة العربية، منخرطة بدورها وبكل حماسة في هستيريا التصوير، ومستسلمة طواعية لغواية الصورة وإغرائها الذي لم تقو على مقاومته.
بسخريته المعهودة علق مترجم مغربي على "تسوماني التصوير" الذي غزا المعرض؛ ونحن ننتظر توقيع ترجمته الجديدة في أحد الأروقة، بقوله "من المؤكد أن عدد الصور التي التقطها الزوار في دورة هذا العام ستكون أكبر بكثير من عدد الكتب التي تم بيعها". قد يبدو هذا القول مبالغا فيه، لكنه قطعا ليس كذلك، حين ندرك أن الصورة أضحت ضرورة لا محيد عنها، كي نعيش أطوار "مسرحة الحياة" التي بلغت الإنسانية ذروتها في هذا العصر.
يرى المؤرخ الأمريكي المعاصر كريستوفر لاش أن "الإنسان المعاصر يسعى إلى التمتع باللحظة، ويبحث عن الرفاهية بشكل فوري، وعن تحقيق الذات. ويعطي الأولوية لذاته مع البحث في الوقت نفسه عن اعتراف الآخر عن طريق الصورة الجميلة التي يبثها بنفسه. بهذا يصير وجود الذات مرتبطا بالآخرين، أو معلقا على شرط واقف هو نيل رضا وقبول الغير، من خلال حجم تفاعله مع ما أبث عن الذات على صفحتي في مواقع التواصل الاجتماعي".
تظهر آخر الإحصائيات بهذا الشأن أن أزيد من ربع سكان الكرة الأرضية فقدوا خصوصياتهم، وبياناتهم بشكل طوعي، تحت إغراء وإغواء ثقافة الصورة، وأصبحوا أكثر قبولا لمشاركة تفاصيل حياتهم اليومية، بما فيها الحميمية والخاصة جدا، مع الغرباء والأغيار في إطار مجتمع افتراضي عابر للحدود الوطنية. ليس هذا فحسب، بل قد تتحول تلك الصورة أو مقطع الفيديو إلى فرصة لنيل الشهرة، وطريق معبد نحو نجومية غير مستحقة، في زمن سطع فيه نجم التفاهة عاليا.
تتجه الإنسانية بخطى بكل ثباث نحو القضاء؛ وبشكل نهائي، على شيء اسمه "العالم الذاتي"، المرافق لتجربة الإنسان منذ بداياتها الأولى، الذي ارتبط فلسفيا؛ في وقت لاحق، بنشأة وتكوين مفهوم الخصوصية، بعيدا عن مراقبة ومتابعة ورصد الآخرين. فعادة ما يكون لهذا العالم، الذي لا يقدر بثمن، أثر كبير في نضج ذواتنا، وتطور مسار تجربتنا الفكرية؛ ففيه نلتقي ذواتنا نحاسبها وننتقدها ونعاتبها، ونحاورها في حضرة وعينا فقط، بعيدا عن أعين الطفيليين والدخلاء.
تبقى المفارقة الغريبة؛ والعصية على الفهم في الآن ذاته، هي الإجماع المطلق من جانب الأفراد على رفض التطفل عليهم. وقد يصل الأمر حين علم البعض بواقعة انتهاك خصوصيته حد اللجوء إلى المتابعة القانونية لحماية نفسه، حين يكتشف أنه كان عرضة للتطفل من جانب الأغيار "دولة كانوا أو أفرادا"، لكنه في المقابل، لا يتردد في كشف وتعرية خصوصيته، بكل طواعية في وقت وحين، وهو في غاية الانتشاء؛ فالمسألة أضحت اختبارا للمقبولية الذاتية في أعين الآخرين.
صفوة القول، إن الكشف الطوعي للذات أمام الملأ في كل لحظة وحين تحول في عصرنا ترمومترا لقياس منسوب الرضا عن النفس، ومستوى الشعور بالتقدير الذاتي. فغواية الذوبان وسط الحشود للهرب من الذات، وأسئلتها المؤرقة عن الكينونة، والفكاك من تعقيدات وضغط الواقع المتشابك؛ جراء لعبة المد والجزر بين الواقعي والافتراضي، بات المخرج الوحيد لجيل "الإصبع الصغيرة" بتعبير الكاتب ميشيل سير. إننا باختصار أمام مجتمع زائف، ذي علاقات قسرية موغلة في الوهم. وخير مثال على هذا، هو أننا نعيش اليوم في مجتمعات تسجل أعلى درجات الاندماج الاجتماعي؛ التي يمكن أن يبلغها عصر صار فيه الأصدقاء الافتراضيون والمتابعون في مواقع التواصل الاجتماعي يعدون بالآلاف والملايين. وفي المقابل، ترتفع في المجتمعات ذاتها، نسب الانتحار وأمراض الاكتئاب والانطواء والانعزالية وانفصام الشخصية... وما إلى ذلك من الأعطاب المجتمعية الآخذة في الانتشار، ما يؤكد أن الصورة التي تأسر عصرنا اليوم، وتحاصرنا من كل ناحية، لا تنقل دائما الحقيقة... بل جزءا منها فقط.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون