default Author

دولة الرعاية الاجتماعية .. مد وجزر «2»

|


إلقاء نظرة أدق على دور دولة الرعاية كأداة للمشاركة في تحمل المخاطر، يكشف عن نقطة البداية التي تجعلنا نميز بين المخاطر وعدم اليقين. وهذه النقطة محورية؛ ففي ظل المخاطر، تكون احتمالات توزيع النتائج معلومة تماما؛ ما يساعد على نجاح الآلية الاكتوارية "أي أقساط التأمين المرتبطة بالمخاطر الفردية" بدرجة معقولة. على سبيل المثال، البيانات عن حوادث السيارات التي يرتكبها سائقون من مختلف الأعمار وبمختلف أنواع السيارات تساعد شركات التأمين في حساب أقساط التأمين على السيارات. ولكن النموذج الاكتواري لا يكفي في مواجهة عدم اليقين، مثل ما يحيط بمعدلات التضخم لفترة طويلة مستقبلا. وعلى النقيض، فإن التأمين الاجتماعي يمكن أن يعالج المخاطر والشكوك؛ لأن الحكومة يمكن أن تفرض على الجميع الدخول في مجمع مخاطر واحد، ويمكنها تعديل المساهمات بمرور الوقت.
الآن وقد تغيرت المخاطر وأجواء عدم اليقين المحيطة بالأسرة ومجالات العمل والمهارات المألوفة، فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للسياسة الاجتماعية؟ عندما كانت معظم الزواجات مستقرة، كان الخطر الرئيس الذي يهدد الأسرة هو وفاة عائلها. واليوم، هناك مزيد من النساء اللائي بلغن مستويات تعليمية عالية ويعملن في وظائف ويحصلن على أجر، وأصبحت هياكل الأسر أكثر تنوعا. وهذه التغيرات تدعو إلى العمل من خلال السياسات لتوسيع الخيارات المتاحة للعمل بأجر والوفاء بالالتزامات العائلية، بما فيها خدمة رعاية الطفل بتكلفة معقولة، وسياسات أخرى، مثل سن تشريع ينص على المساواة في الأجر لتحسين المساواة بين الجنسين. وفي أسواق العمل، كان الخطر الرئيس فيما مضى هو مواجهة البطالة لفترة قصيرة. واليوم، أصبحت طرق ارتباط العمالة بسوق العمل متنوعة بشكل أكبر، فالعاملون يبدلون وظائفهم أكثر من ذي قبل، وغالبا مع مرور فترات من العمل بدوام جزئي، أو العمل الحر، أو البطالة، أو مُضي وقت خارج سوق العمل الرسمي. وأصبحت شروط التوظيف شائكة بدرجة أكبر. وفي المستقبل، قد يؤدي التغير التكنولوجي، بما في ذلك انتشار الذكاء الاصطناعي، إلى زيادة المخاطر المحيطة بتوظيف العمالة. وفي ظل زيادة تنوع علاقات العمالة بسوق العمل، أصبح هناك عدد أقل من العاملين في الاقتصادات المتقدمة الذين احتفظوا بوظائفهم، وتراجعت بالتالي فعالية تنظيم المساهمات في نظم الضمان الاجتماعي ومعاشات التقاعد في القطاع الخاص من خلال رب العمل، ولم تعد هناك تغطية جيدة مقارنة بما مضى.
وكانت نظم الرعاية الاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية تفترض تمتع العمالة بمجموعة المهارات نفسها مدى الحياة. لكننا نرى اليوم التطورات التكنولوجية السريعة التي تولد الحاجة إلى قوى عاملة ذات مهارات أعلى مع تنوع أكبر في المهارات. وهذه السرعة في التغيير إنما تعني أن مدة صلاحية المهارات المطلوبة قصيرة، وبالتالي فإن هذه الاتجاهات العامة تقتضي حدوث تغييرات جوهرية في وسائل التعليم والتدريب. وسيتعين تقديم مزيد منها، كما يتعين القيام مرارا وتكرارا بتنويع المحتويات والأساليب في تقديمها، بما في ذلك منح الشركات دورا أكبر. ويجب أن تتاح لهذه الأنشطة موارد كبيرة لتمويلها.
وإضافة إلى معالجة هذه المخاطر المحددة، فإن نظم الرعاية الاجتماعية تحمي كذلك من المخاطر التي تؤثر في النظام، مثل مخاطر وقوع حرب تجارية أو أزمة اقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، والأضرار البيئية التي تنجم عن تغير المناخ أو الحوادث النووية، وتغير هيكل الأعمار.
وليست كل هذه المسائل بجديدة، فعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي في ثلاثينيات القرن العشرين كان محركا مهما لإصلاحات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهناك مخاطر أخرى برزت على الساحة ولا سيما تلك المقترنة بالأضرار التي تلحق بالبيئة وبالتغير التكنولوجي. والأهم من ذلك أنها ليست مخاطر تؤثر في النظام وحسب، وإنما هي أيضا مخاطر ينشأ معظمها من عدم اليقين. ويعزز هذان الجانبان الدور الأساسي لدولة الرعاية.. (يتبع).

إنشرها