Author

ما بعد ثلاثية المهن

|

في عقود مضت كانت الاختيارات التخصصية وفق منظور التفضيل الاجتماعي محصورة في ثلاثة أشياء، طبيب، مهندس، وطيار، إذ كانت أمل، وطموح كل شاب، بل كانت ما يؤمله الأهل في أبنائهم، ويسعون جاهدين لتحقيق ذلك من خلال التشجيع، والتحفيز، أو حتى من خلال الإجبار في بعض الحالات، أو «الواسطة»؛ مع ما يترتب على ذلك من إحراج للأهل، والمسؤول الذي بيده الأمر، واستمر الوضع على هذه الحال فترة طويلة؛ لما لهذه الوظائف من إغراء وجاذبية اجتماعية للعاملين بها.
الرغبة الاجتماعية لها أثرها، ويمكن القول وطأتها على الفرد في تشكيل الميل، وإن كان كاذبا، وغير طبيعي، بل أقرب ما يكون مسايرة اجتماعية في مجتمع تمثل الرغبة الاجتماعية قوة ذات سطوة على الفرد في طريقة تفكيره، واختياراته التي ربما لا تتناسب مع قدراته، ولذا كان لتلك الحقبة التي كان الثلاثي: طبيب، مهندس، وطيار يشكل أفق التفكير الاجتماعي لما يجب أن يكون عليه الأبناء، مزيحا بذلك الفرد المعني الذي يجب أن يقرر لنفسه، بناء على رغبته وقدراته، لذا كان لهذا الوضع آثار سلبية تمثلت في دخول أفراد تخصصات لا تناسبهم، ومن ثم ضياع الفرص على من تتوافر لديهم القدرات اللازمة، والميول الحقيقية، لا الكاذبة الناتجة بفعل الثقافة السائدة آنذاك. كما أن الآثار السلبية تمثلت في ضياع الوقت، والتشتت، والإحباط لدى من دخلوا تخصصات تحت تأثير الفعل الاجتماعي الذي عين نفسه صاحب الحق في اختيار التخصص، دون أخذ في الاعتبار لمتطلبات التخصص المتمثلة في قدرات عقلية، وميول.
المنظور الاجتماعي الذي يحدد ما يجب أن يدرسه الفرد، أو يعمله لم يعد قائما بصورته السابقة، إذ مع الاتصال، والانفتاح على العالم الخارجي، وطفرة التقنية الهائلة انعكس هذا على طبيعة الحياة، فكثرت الاختيارات الدراسية، وتبع ذلك ظهور وظائف، ومجالات عمل جديدة، ذات جاذبية، ومردود مادي أفضل، مثل المعلوماتية، والمحاماة، وإدارة الأعمال، والعناية بالبيئة، ولا يبالغ المرء إذا قال إن المهنة الواحدة تشعبت، وتولدت عنها مهن دقيقة لها علومها ومتخصصوها.
الحياة الرتيبة، الساكنة في السابق لم تعد كذلك، إذ مع التغيرات القوية أصبح العالم يشهد مهنا جديدة تطلبتها ظروف الحياة المعاصرة؛ ما أوجد فرصا جديدة، لكن بتحديدات أكثر، نظرا لما تحتاج إليه من مهارات عالية الدقة، وسرعة فائقة، تتناسب مع سرعة وإيقاع الزمن الذي نعيشه.
أولى علماء النفس اهتماما كبيرا، وبذلوا جهدا من خلال البحوث، والدراسات النظرية، والميدانية بشأن تحديد، ومعرفة الخصائص الجسمية، والنفسية، والعقلية المناسبة للمهن المختلفة؛ بهدف تحقيق جودة العمل، وتقديم خدمة يرضى عنها الزبون، فعلى سبيل المثال لا الحصر موظفو الاتصالات هل توجد مواصفات وخصائص محددة لهم، أم يمكن إسناد المهمة لأي شخص، دون محاولة التثبت من توافر خصائص بعينها؟ هذه الوظيفة بدأت تتقلص، وحل محلها الرد الآلي، حيث يقدم المعلومة المطلوبة دون حاجة إلى وجود فرد يبحث عن المعلومة ليزود بها المتصل، على أن بعض خدمات المشتركين في بعض القطاعات لا تزال قائمة لتلقي الشكاوى، والإجابة عن الاستفسارات، ومتابعة بعض القضايا.
ما من شك في أن خدمات المشتركين تتطلب خصائص من مثل سرعة الإدراك، وسعة البال، وحسن التعامل مع طالبي الخدمة، وسرعة تنفيذ الطلب، وجودة التنظيم العقلي، واللباقة، وحسن اللفظ، والشعور بأهمية تزويد المتصل بالمعلومة؛ نظرا للموقف الصعب الذي يمر به، إما لحريق، وإما لحالة إسعافية حرجة، ومن علماء النفس الذين أولوا الخصائص المطلوبة للمهن سترونج، كودر، كامبل، حيث توصلوا بالدراسات، والأبحاث إلى أن النساء أكثر نجاحا من الرجال في وظائف خدمات مشتركي الاتصالات؛ لما يمتلكنه من صبر، وسعة بال، ولطف التعامل مع الشرائح والفئات الاجتماعية كافة. وتجدر الإشارة إلى أن عملهم بني على فكرة تصنيف المهن إلى عائلات، وكل عائلة مهنية يندرج تحتها مجموعة من المهن، تشترك في بعض الخصائص المطلوبة في من يشغلها، وتتمايز في خصائص أخرى، ولذا من ضمن العائلات: المهن الكتابية، الخلوية، المهن الفنية، الميكانيكية، والإقناعية... إلخ، ما يعني أن التقدم التقني والمعرفي أوجد مهنا لم تكن معروفة من قبل.

إنشرها