default Author

تبديد المخاوف من التكنولوجيا والعولمة «1»

|


نحن نعيش عصرا يعوزه الأمن، وهناك رفض متزايد لقيم الديمقراطية الليبرالية والاقتصاد الليبرالي والنظام الدولي القائم على القواعد رغم أنها جميعا حققت تقدما للأغلبية الساحقة من الناس. وأسهم في تغذية هذا الاستياء ما نشأ من مخاوف بشأن تباطؤ التقدم الاقتصادي، ولا سيما في الاقتصادات المتقدمة، وجمود الإنتاجية والحركية الاجتماعية، وبواعث القلق تجاه المستقبل التي أحدثتها التحولات الديموغرافية والتكنولوجية. ونرى انعكاسا لذلك في المجال السياسي. فغضب الجماهير وفقدانها الثقة بالنخب، اللذان تفاقما بسبب الأزمة المالية، أديا إلى تنامي التأييد للساسة ذوي التوجهات القومية المتطرفة والبعيدة عن الليبرالية. ونرى انعكاسه في الأدلة المتزايدة على تراجع الرفاهية وانخفاض الثقة من منظور المواطنين في بلدان كثيرة. ورغم اختلاف الأسباب وراء شعورنا بالاستياء، فإنها تشير جميعا إلى ضرورة إنعاش حياتنا السياسية والاقتصادية وتجديد عقدنا الاجتماعي لبث شعور أكبر بالأمن والثقة في نفوس المواطنين إزاء التغيرات الوشيكة.
فما السبب في عدم شعور كثيرين بالسعادة في بعض بلدان العالم الأكثر نجاحا؟ إن عدم المساواة يشكل سببا أساسيا وراء ذلك، مثله مثل الخوف مما يحمله المستقبل الذي تسببت فيه الأتمتة وشيخوخة السكان. ورغم زيادة المساواة بين البلدان على مستوى العالم، كانت هناك آثار مختلفة في توزيع الدخل داخل كل بلد. فكانت المنافع هائلة بالنسبة للطبقة المتوسطة في الأسواق الصاعدة، والطبقة التي تمثل أغنى 1 في المائة على مستوى العالم، بينما كانت المعاناة نصيب الطبقة المتوسطة في الاقتصادات المتقدمة. ويشعر الآباء في كثير من البلدان بالقلق على مستقبل أبنائهم في مواجهة ارتفاع تكاليف التعليم والمساكن، مع انخفاض جودة الوظائف وضعف المزايا المصاحبة لها.
دعوات المنادين بالحمائية
يلقي كثيرون باللائمة على العولمة والتكنولوجيا، لكني أود التركيز بدرجة أكبر على فشل عقدنا الاجتماعي في التعامل بصورة سليمة مع العواقب المترتبة على كل منهما. فعقدنا الاجتماعي -وهو ما أقصد به حقوق المواطنة والتزاماتها- أصبح الآن عقدا باليا بسبب العولمة المفرطة وفترة التقشف التي أعقبت الأزمة المالية. فقد أدى التقدم في الأتمتة وزيادة حدة المنافسة العالمية إلى خفض أجور العمالة الأقل مهارة. ونتيجة لذلك، يدعو كثيرون إلى زيادة الحمائية أو يلقون باللوم على المهاجرين. لكن الحل لا يكمن في التراجع عن العولمة والعودة إلى صوامعنا الوطنية المنفردة، إنما الحل هو إعادة النظر في عقدنا الاجتماعي لمعالجة هذه التوترات ومساعدة الناس على التكيف مع المستجدات. وجاء تباطؤ النمو منذ فترة "الركود الكبير" ليضاعِف التأثير المترتب في كل هذه المستجدات. فقد كشفت دراسة أجراها أخيرا معهد ماكنزي العالمي وشملت 25 اقتصادا متقدما أن ما يراوح بين 65 و70 في المائة من الأسر "أو 540 مليونا و580 مليون فرد" تعرضوا لثبات الدخل أو انخفاضه قبل خصم الضرائب والتحويلات في الفترة من 2005 إلى 2014. وعندما يصبح النمو بطيئا، يصبح الناس أقل سخاء وسماحة.
ولا شك أن سياسة المالية العامة خفضت هذا الهبوط إلى نسبة 20 في المائة إلى 25 في المائة من الدخل المتاح للإنفاق، أو بعد خصم الضريبة، طبقا لدراسة معهد ماكنزي الصادرة عام 2016 تحت عنوان: أبناء أفقر من الآباء، دخول ثابتة أو متراجعة في الاقتصادات المتقدمة؟ وحققت شبكات الأمان الاجتماعي أداء جيدا للغاية في الولايات المتحدة، إذ تمكنت بالتدريج من تحويل انخفاض الدخول المتأتية من السوق التي بلغت نسبته 4 في المائة إلى زيادة بنسبة 1 في المائة في الدخول المتاحة للإنفاق. وساعدت خطة التحفيز التي أطلقتها إدارة أوباما على إحداث هذا التغيير البالغ خمس نقاط مئوية، حيث وجهت إلى الأسر تحويلات تجاوزت 350 مليار دولار أمريكي في صورة إعفاءات ضريبية ومساعدات للعمالة التي تضررت من الهبوط الاقتصادي. أما في فرنسا، فقد تمكنت شبكة الأمان الاجتماعي من تحقيق زيادة قدرها ثلاث نقاط مئوية في المستوى الوسيط للدخل المتاح للإنفاق مقارنة بمستوى الدخل الوسيط المتحقق من السوق، بينما تقدم المملكة المتحدة تحويلات كافية لتعويض انخفاض الدخل من السوق بصورة كاملة... يتبع.

إنشرها