Author

آلية أوروبية بائسة لإنقاذ إيران

|
كاتب اقتصادي [email protected]


"الكيانات التي ستشارك في أنشطة خاضعة للعقوبات مع إيران، ستواجه عواقب وخيمة"
كريستينا هيجينز، دبلوماسية أمريكية

العلاقات الأمريكية - الأوروبية ليست بأفضل حال، وهي كذلك منذ أن اتبعت واشنطن سلسلة من السياسات وجدت المفوضية الأوروبية أنها لا توافق العلاقات الاستراتيجية التاريخية القائمة مع الولايات المتحدة، سواء فيما يتعلق بالبيئة والمهاجرين والتجارة، حتى وضعية حلف شمال الأطلسي "الناتو" نفسه. وتتعالى بالفعل "صيحات" متضاربة بين الطرفين على مختلف المستويات. وبعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي المضطرب مع إيران، أضيفت أزمة طهران إلى ملف العلاقات المتناحرة بين بروكسل والعاصمة الأمريكية. فلا أوروبا تمكنت من اختراق ما في هذا الملف الشائك، ولا الولايات المتحدة راجعت موقفها منه. فهذه الأخيرة تَعُد الاتفاق -كما هو معروف للجميع- وصمة عار، وتتعاطى معه على أنه اتفاق أوباما وليس اتفاق واشنطن.
الأوروبيون يريدون مسك العصا من المنتصف، رغم أن قبضتهم هذه لا قيمة لها عند الإدارة الأمريكية، بل على العكس تماما، صعّدت هذه الإدارة من تهديدات لكل جهة "أوروبية أو غير أوروبية"، من مغبة التعامل مع النظام الإيراني، خصوصا بعد الموجة الثانية الشديدة من العقوبات التي فرضتها، ونالت من كل شيء تقريبا، بما في ذلك النظام المالي، والصادرات النفطية، والمعدات التي تَعُدها واشنطن خطيرة، وغير ذلك من قطاعات ضربت حقا اقتصاد إيران المتهاوي أصلا. فحتى استثناء واشنطن ثماني دول لمواصلة استيراد النفط الإيراني كان مشروطا ومحددا بمدة زمنية معينة. فالهدف الأمريكي كان واضحا، لا بد من خنق نظام الإرهاب في إيران ماليا، لكي يوقف خرابه في الأرجاء.
وفي ظل وهم أوروبي نادر بالفعل، وجدت بروكسل أن بالإمكان إعادة التفاوض حول الاتفاق النووي، أو إضافة تعديلات إليه؛ لإعادة الولايات المتحدة إليه أيضا. بل عظُم وهمها أكثر بعد أن بدأت تتحدث عن إمكانية إعادة تأهيل النظام الإيراني نفسه. ورغم أن الأوروبيين لم يحصلوا على أي رد إيجابي من طهران يغطي أوهامهم، إلا أنهم ظلوا يمارسون تلك اللعبة القديمة البائسة التي تستند إلى إطلاق حوار مع نظام لا يفهم الحوار، بل ينظر باستهجان إلى أي حلول وسط، بصرف النظر عن الموقف الأمريكي القوي. فماذا فعلوا؟ أطلقوا آلية أوروبية لدعم التبادل التجاري مع إيران عرفت بـ"آينستك" INSTEX؛ وهي ببساطة أداة للمساعدة على الحد من تأثيرات العقوبات في إيران، وفي الوقت نفسه تأمين المؤسسات الأوروبية من الغضب الأمريكي المحدق.
يرى البعض أن هذه الآلية ليست سوى "تحرك رمزي أوروبي للحفاظ على الاتفاق النووي"، علما بأنها من ناحية فنية تحتاج إلى مزيد من الوقت لاختبار جدواها، فالأمر ليس بهذه البساطة. بالطبع، لم تتأخر الإدارة الأمريكية عن رفع درجة غضبها من الأوروبيين إلى مستوى جديد، فقد طلبت رسميا تفاصيل عن هذه الآلية، ونبهت في الوقت نفسه من معاقبة الدول والحكومات والكيانات التي تتعامل تجاريا مع طهران. ولعل من المفيد التذكير هنا بأن من ضمن عقوبات واشنطن، عدم إمكانية استخدام النظام المالي الأمريكي، أو التعامل مع الشركات الأمريكية، وهذا في حد ذاته عقاب مرعب لكل الشركات الأوروبية التي قد تقبل باتباع آلية المفوضية الأوروبية للتعامل مع نظام علي خامنئي، خصوصا مع ارتباط حراكها بصورة أو بأخرى مع النظام المالي الأمريكي.
من المفارقات، أن في الوقت الذي تسعى فيه أوروبا إلى إنقاذ نظام إرهابي طائفي شنيع، قال هذا الأخير إن "الإجراءات الأوروبية لا تزال محدودة". بالطبع، لم يرد الأوروبيون على هذا الموقف، فهم يعلمون أنهم لن يحصلوا على شيء إيجابي، ولو كان عن طريق تصريحات إيرانية سرعان ما تذهب أدراج الرياح. فطهران ليست في وضع يحدد شكل المساعدة التي ترغب فيها، وأوروبا هي الأخرى ليس من الوارد لديها المضي أكثر من ذلك في تحديها للإدارة الأمريكية، رغم كل الخلافات التي تصبغ العلاقات معها. يضاف إلى ذلك أن الآلية المشار إليها، لا تتمتع -حتى الآن- بأدوات واضحة للتنفيذ، وإن ظهرت هذه الأدوات لاحقا، فالأمر يرتبط أيضا باستراتيجية التطبيق، بينما يتصاعد الغضب الأمريكي.
هذه المهمة الأوروبية التي يرى البعض بؤسها يتقدمها، تصطدم أيضا بتردد الشركات الأوروبية نفسها. فالأخيرة خرجت كلها تماما من إيران صيف العام الماضي، حتى قبل أن تفرض واشنطن حزمتها الثانية من العقوبات على نظام خامنئي. وهي تعرف أن الغضب الأمريكي، يعني ببساطة عقوبات من بينها غرامات مالية هائلة، ومنع أي نشاط لها على الساحة الأمريكية، وهذه الشركات تغطي تقريبا كل القطاعات من حيث طبيعة إنتاجها وتصنيعها وخدماتها. إنها "مهمة" تبدو مستحيلة حتى بالنسبة إلى المؤسسات ذات الهوية الأوروبية، كما أنها لا تحظى حتى بمجرد شكر باهت من نظام إرهابي لا يستحق إلا الخنق المالي.

إنشرها