Author

حتى لا نكون من الأقل حظا

|


صدر خلال العام الفائت تقرير جميل من مؤسسة الملك خالد الخيرية عن سياسات الشمول المالي في المملكة، وهي السياسات المرتبطة بمعالجة مشكلة الفئات الأقل حظا التي لا تتمكن من الوصول إلى الخدمات المالية التي تيسر لها الحصول على المنافع والخدمات وقضاء الاحتياجات. من هذه الفئات وكما يعرفها التقرير: المرأة، ومحدودو الدخل والمتعثرون، ومن هم خارج قوة العمل، وفئات أخرى كذلك. ومن أبرز مؤشرات مشكلة الوصول إلى الخدمات المالية تملك حساب بنكي، فمن لا يملك حسابا بنكيا لا يتمكن في العادة من الاستفادة من عدد كبير من الخدمات المالية، ويقدر هؤلاء بنسبة 28 في المائة في المملكة أو 6.9 مليون شخص، "النسبة العالمية تقدر بنحو 31 في المائة". مثل هؤلاء لا يتمكنون من الاقتراض الخاضع للقوانين ولا يحصلون على خدمات تأمينية أو استثمارية مرخص لها.
تمكنا أخيرا من السماع عن برامج وسياسات تسهم في تحسين وضع هذه الفئات وكل من يدخل بشكل أو بآخر في دائرة الأقل حظا ماليا، والزخم المرتبط بهذه الأنشطة في تطور مستمر ومتصاعد سواء على مستوى دعم الادخار أو تطوير المنتجات التمويلية المتخصصة "للحصول على مسكن مثلا" وتلك المرتبطة بتطوير الثقافة المالية بشكل عام، أو الدعم المتخصص للفئات ذات الدخل المنخفض. وعلى الرغم من سرعة هذه التطورات إلا أن الفراغ لا يزال كبيرا، وهناك فسح كثيرة للتطوير والعمل الجاد.
بعيدا عن مسؤولية الجهات التي تقوم على تنشيط هذه السياسات وتنفيذ البرامج المتعلقة بالشمول المالي، هناك مسؤولية أخرى تقع على الفرد نفسه. فالتقاعس عن القيام بالتخطيط المالي يجعل الفرد يقترب أكثر من دائرة الأقل حظا. التحفيز الذاتي والمحاولات الشخصية تتحد مع البرامج والخيارات المتاحة وتكمل الحلول للفرد. لهذا ينجح الفرد الذي يتحفز بالاحتياج عند وجود السياق المناسب ويصنع الفارق، بينما تفشل البرامج التي تعمل عند أفراد غير محفزين، ويفشل الأفراد في الوصول المالي إذا وُجد الحافز وافتقدت الأداة.
من جانب آخر، أرى أن تعريف الشمول المالي ينبغي أن يتحدث ليعيد تعريف الفئات الأقل حظا وفقا لمعطيات الواقع الجديد الذي نعيشه؛ من ذلك تأثير التكنولوجيا "التجارة الإلكترونية" في الممارسات الاستهلاكية أو تطور دور المهارات المتعددة ــــ وليس التخصص فقط ـــ في تحسين الحياة المهنية للفرد، أو تغير كثير من نماذج الأعمال، والأنشطة الاقتصادية التقليدية، وولادة نماذج جديدة لم تكن موجودة من قبل.
اليوم، نرى كثيرين ممن يتأثرون بمشكلة الوصول إلى الخدمات المالية مع أنهم يملكون حسابا في البنك، فلم يعد الوصول إلى الخدمات المالية مرتبطا كثيرا بالحساب البنكي أو الخدمات المصرفية والمالية التقليدية. إدارة الدفع المؤجل على سبيل المثال فيها كثير من الممارسات التي نصل إليها ولا نحقق غايتها، فكثير منا يأخذ القرض ويمتلك بطاقة ائتمانية ويسدد أقساط التعليم، وهو بعيد كل البعد عن الإدارة الفعالة للتدفقات النقدية ولا يعرف تأثير القيمة الزمنية للنقود في تعاملاته. وآخر يصل لكل الخدمات المالية التقليدية ولكنه لا يعرف منتجا أو أداة واحدة يستطيع من خلالها ممارسة الادخار. مثل هؤلاء قد يدخلون في دائرة الأقل حظا، وعلى الأرجح سيظلون داخلها حتى لو فتحوا عشرات الحسابات البنكية وتمكنوا من الحصول على عدة قروض.
كانت الإشارة إلى الأقل حظا ترجمة لمصطلح The unprivileged . وفي الاستخدام الإنجليزي للمصطلح تلميح بأن هذه الفئات لا تستحق هذا الوضع ولم تحصل على ذلك نتيجة لأفعالها، وإنما لظروف أخرى لم يكن لها فيها أي دور. الوضع يختلف عند الأقل حظا الجدد، فهم يعيشون في بيئات متحسنة "مستمرة في التحسن"، ويوجد حولهم عديد من الحلول التي تستحق الاكتشاف، ولكنهم مقيدون على الأرجح بقيود اجتماعية أو فكرية لا تسمح لهم بالتحرك، ويفتقدون كذلك إلى الحافز.
الأقل حظا "الجدد" لا يشبهون الأقل حظا الآخرين في المجتمعات الأخرى. معظم من يفتقرون إلى الثقافة المالية والحلول المالية الملائمة اليوم في محيطنا هم عمليا محظوظون بكثير من الخيارات والحلول والقدرات التي يستطيعون تفعيلها ببعض الجدية والمجهود. المشكلة أن هؤلاء سيتحولون عمليا إلى الفئات الأقل حظا إذا لم ينقذوا أنفسهم بالخطوات الملائمة في الوقت المناسب. هذا ما يحصل فعليا عندما يجهل ويتجاهل أحدهم القيام بالخطوة الشجاعة الصحيحة لضبط تصرفاته المالية، فتعم الفوضى حياته، إلى أن يتدهور دخله وتتفاقم مشكلاته. المقلق أن مثلا هؤلاء الذين يسقطون في دائرة الأقل حظا، يسحبون معهم أبناءهم وأسرهم إلى المصير نفسه، فالتعليم المتواضع لا يفتح الباب لمهارات عصرية متطورة، والفوضى المادية سبب للاضطراب والتفكك الأسرى، وهذه كلها مداخل لعالم الفئات الأقل حظا أبعدنا الله وإياكم عنها.

إنشرها