Author

الذكاء الاصطناعي .. خطط دولية لامتلاك زمامه

|

عندما نخطط فنحن نستعد للمستقبل، نحاول التأثير في أحداثه، ونسعى إلى التحكم فيها. التخطيط محاولة ضرورية تتلمس فيها الوحدةُ الاستراتيجيةُ، أيا كانت فردا أو مؤسسة أو دولة، طريقَ المستقبل لتسير في اتجاهه وصولا إلى تحقيق أهدافها المنشودة. التخطيط يستند إلى مبدأ "اعقلها وتوكل"، وذلك أمر محمود ومطلوب، أما النتيجة فدائما مشيئة رب العالمين. ويرتبط التخطيط في الأغلب بالقضايا المهمة للوحدة الاستراتيجية، صاحبة العلاقة. ويبرز "الذكاء الاصطناعي" في هذا الإطار كقضية من أهم القضايا التي تواجهها الدول في رسم معالم طريق مستقبلها. فالعالم مع هذا الذكاء موعود بمعطيات غير مسبوقة، تغير طبيعة الحياة التي يعيشها الإنسان في شتى المجالات. وعلى الدول الطموحة أن تفكر، ليس فقط في التخطيط للاستفادة من هذه المعطيات، بل أن تسعى إلى الإسهام فيها أيضا.
ليس "الذكاء الاصطناعي" تقنية منفصلة بذاتها، بل إنه تقنية مرتبطة بتقنيات أخرى كثيرة. يبدأ هذا الذكاء بالتقنية الرقمية؛ حيث الإلكترونيات والاتصالات والحوسبة وبرامج تحاكي ذكاء الإنسان، وتضيف إليه السرعة والكفاءة، والبعد عن الكلل والملل. ويشمل تطبيقات لا حدود لها في شتى المجالات الصناعية والزراعية والإنشائية والطبية واللغوية والإدارية وغيرها. وعلى ذلك، فإن دائرة تأثيره المستقبلي تشمل مختلف جوانب الحياة، ومن يستطع امتلاك زمامه فإنه موعود بمكانة مرموقة في المستقبل، تتجدد وتتطور مع ارتقاء إمكاناته والإبداع والابتكار في مجالاته.
بدأت دول كثيرة وضع خطط مستقبلية "للذكاء الاصطناعي"، ساعية إلى امتلاك زمامه. وقد رصد الباحث تيم دوتن Tim Dutton هذه الخطط، وعرضها في مراجعة شاملة على الإنترنت تحت عنوان "مراجعة للاستراتيجيات الوطنية للذكاء الاصطناعي". وشملت هذه المراجعة خططا لسبع دول جرى إعلانها عام 2017، وخططا أخرى لـ15 دولة تم إعلانها عام 2018. وسنستعرض فيما يلي المضامين الرئيسة لمحتويات هذه الخطط، من خلال أبعاد عوامل التخطيط التي استخدمناها في مقالات سابقة، وهي: "بعد التوجهات الاستراتيجية؛ وبعد "التقنية وما يتعلق بها"؛ وبعد "المؤسسات وما يرتبط بها"؛ ثم بعد "الإنسان المسؤول عن الذكاء الاصطناعي والمستفيد من عطائه"؛ إضافة إلى بعد "بيئة العمل والإنجاز والتطوير".
إذا بدأنا "بالتوجهات الاستراتيجية" للخطط الدولية، نجد أنها تراوح بين توجهات تتمتع بنطاق واسع من الطموحات، وتوجهات محدودة تركز على جوانب بعينها دون أخرى. هناك مثلا توجه شامل، لإحدى الخطط، يقضي بالسعي إلى "قيادة العالم في الجوانب النظرية والتقنية والتطبيقية للذكاء الاصطناعي". وهناك توجه لخطة أخرى يركز على تفعيل البحث العلمي والإبداع والابتكار في مجالات هذا الذكاء؛ تمهيدا للاستفادة من ذلك فيما بعد. ثم هناك خطة ثالثة تهتم بتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص في إنتاج "تطبيقات الذكاء الاصطناعي" واستخدامها والاستفادة منها. وتتوجه خطة رابعة نحو تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تؤدي إلى تنمية مستدامة اقتصادية واجتماعية، تعود بالنفع على الجميع.
تحدد توجهات الدول نحو الذكاء الاصطناعي الطريق المناسب لمسيرتها نحو الوصول إلى طموحاتها عبر أبعاد التخطيط الأخرى: "التقنية، والمؤسسات، والإنسان، وبيئة العمل". في بعد "التقنية"، على سبيل المثال، هناك شرائح إلكترونيات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك شرائح الشبكات العصبية، وهناك أيضا البرامج الحاسوبية التي تحاكي ذكاء الإنسان. ونشهد في إطار تطبيقات هذه التقنية -على سبيل المثال- أيضا "روبوتات" الأعمال الصناعية، والخدمات المختلفة، بما في ذلك الخدمات الصحية، وإجراء العمليات الجراحية، والتحكم في حركة وسائل النقل، وقراءة مضامين البيانات الضخمة، والإسهام في حماية الفضاء السيبراني، وغير ذلك. ويأتي "البحث العلمي" في هذا المجال، وسيلة لتطوير تقنية الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها. وتبرز أيضا مسألة التعاون و"نقل المعرفة المفيدة" حول هذا الذكاء، مثل نقل المعرفة من مختبرات البحوث في الجامعات إلى قطاعات التصنيع وتقديم الخدمات.
وتنقلنا مسألة التعاون إلى "المؤسسات" ذات العلاقة، وبينها الجامعات ومراكز البحث العلمي، ومؤسسات التصنيع والخدمات والتطبيقات في القطاعين العام والخاص. وتضاف إلى ذلك مؤسسات خاصة أضافت كثيرا من الخطط الجديدة للذكاء الاصطناعي في دول مختلفة. فعلى سبيل المثال أضافت بعض الخطط مؤسسات تعمل في الذكاء الاصطناعي ضمن "مجموعات تميز" Clusters of Excellence، تجتمع فيها الخبرات الأكاديمية والمهنية القادرة معا على تقديم منتجات وخدمات غير مسبوقة. كما أضافت أيضا ضرورة الاهتمام بإطلاق "مؤسسات أولية" Startups في مختلف مجالات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته؛ وكذلك العمل على رعاية "المؤسسات الصغيرة والمتوسطة" SME العاملة في هذه المجالات.
ونأتي إلى البعد الخاص "بالإنسان" في خطط الذكاء الاصطناعي؛ حيث يأتي التركيز هنا على الحاجة إلى تأهيل المهارات المحلية، وتحفيز الإمكانات والمواهب التي تتمتع بها، على الابتكار، إضافة إلى استقطاب المهارات الخارجية المتميزة. وتبرز هنا معضلة التنافس بين معطيات الذكاء الاصطناعي من أجهزة و"روبوتات" من جهة، والناس من جهة أخرى، على كثير من الوظائف، خصوصا تلك التي تتسم بالعمل الروتيني المتكرر. وتأتي حلول هذه المعضلة في الخطط من منطلق أن الإنسان المؤهل بما يلزم يبقى أرقى من الآلة، ويستطيع أداء أعمال أكثر ذكاء من ذكاء الآلة، فهو الأصل، وهي من إنتاجه. وعلى ذلك، فإن حصول آلات الذكاء على كثير من وظائف الإنسان، يمكن أن يقابله إيجاد وظائف أرقى تناسب الإنسان فقط، كما حدث عندما غيَّرت كل من الثورة الصناعية والثورة المعلوماتية في تركيبة الوظائف التي اعتاد الإنسان القيام بها. وهكذا نصل إلى بعد "بيئة العمل"؛ حيث اهتمت الخطط بتوفير "الدعم المالي والاستثمار" في موضوعات الذكاء الاصطناعي، كما ركزت على الأطر "التشريعية والتنظيمية والأخلاقية" اللازمة للتعامل مع هذا الذكاء ومعطياته.
لا شك أن الذكاء الاصطناعي يمثل تحديا عالميا جديدا على الجميع العمل على مواجهته، ليس بِرَدِّ الفعل فقط، بل بالفعل أيضا. وإذا كانت هناك منافسة بين الدول في هذا الأمر، فيجب أن يكون هناك تعاون أيضا؛ لأن ذلك في مصلحة الجميع. والأمل أن يكون لهذا الذكاء الدور الذي يستحقه في التوجه نحو التحول الرقمي الذي تشهده المملكة في الوقت الحاضر.

إنشرها