المشراق

معتقدات شعبية في الحياة اليومية .. ذهب السن إلى الشمس ولم يعد

معتقدات شعبية 
في الحياة اليومية .. ذهب السن إلى الشمس ولم يعد

معتقدات شعبية 
في الحياة اليومية .. ذهب السن إلى الشمس ولم يعد

تعامل كثير من أفراد المجتمع مع المعتقدات الشعبية في طفولتهم، محاكاة للمجتمع، بوصفها مسلمات متوارثة جيلا بعد جيل، ومن طبائع العوام في جميع الشعوب أنهم مولعون بتفسير الحياة من أبسط المواقف، ويرون العالم من حولهم من خلال معتقدات شعبية مثل: طنين الأذن ورفيف العين وتنميل القدم، وهذا يؤكد أن الظاهرة منغرسة في اللاوعي الجمعي للبشرية، لكن الناس تركوا تتبع تاريخها وتحليله لما يبدو من بساطته الظاهرية، وارتباطه بالجهل والطفولة.

ما المعتقدات الشعبية؟
يقصد بالمعتقدات الشعبية: التصورات المجتمعية التي تربط بين متغيرين أو شيئين ليس بينهما أي رابطة علمية أو منطقية، مثل اعتقادك أن أحدا تكلم فيك بخير إذا رف حاجبك الأيمن، أو تكلم فيك بشر إذا طنت أذنك، وتعديل الحذاء المنقلب اعتقادا بارتباطه بقداسة السماء؛ وهذه الظاهرة الاجتماعية ليس لها مصطلح متفق عليه، ولم تحظ بالدراسة على الرغم من أن عمرها يقاس بآلاف السنوات، وأنها معروفة عند العرب من زمن الجاهلية حتى الآن، كما أنها ترد في كثير من تراث الشعوب الأوروبية والآسيوية. وهي من أشهر الظواهر الاجتماعية المتخفية في ممارسات الحياة اليومية، وتوجد مقالة قديمة لمصطفى جواد، سماها الأوابد، بعنوان "أوابد العرب الجاهليين والإسلاميين وما بقي منها عند أخلافهم"، ضمن كتابه في التراث العربي.
ويلحظ وجود اختلافات بين المعتقدات الشعبية الحضرية عن الريفية والبدوية، إذ إن العوام يستلهمون معتقداتهم الشعبية من بيئاتهم.

المعتقدات الشعبية
في التراث العربي
وجدت ظاهرة المعتقدات الشعبية تملأ الحياة اليومية في التراث العربي، وتوصلت إلى أن لها أصولا منذ عصر الجاهلية، ومن الأمثلة الطبية على ذلك: أن الطفل يرمي سنه الساقطة موجهها نحو قرص الشمس مع عبارة "يا شمس أبدليني سني بسن غزال"، ويقول طَرَفة بن العبد:
بدلته الشمس من منبته
بردا أبيض مصقول الأشر
وهذا السلوك لا يزال موجودا إلى وقت قريب.
وتزعم العوام أنه إذا خدرت قدم الشخص وذكر من يحب يذهب عنها الخدر، يقول كثير عزة:
إذا خدرت رجلي دعوتك أشتفي
بذكراك من مذل بها فيهون
ورصد الجاحظ هذه الظاهرة في كتاب "الحيوان"، وانتقدها ضمن كلامه عن خرافات العوام عن الحيوانات لعدم عقلانيتها، وانتقد العامة لتقبلهم كل تفسير اجتماعي يلامس مشاعرهم بغض النظر عن منطقه. كما اهتم أبو حيان التوحيدي بظاهرة المعتقدات الشعبية والسلوكيات الغريبة في الحياة اليومية، ويبدو أنه قام بدراسة أثنوجرافية ميدانية لها، من أجل تفكيك الحياة اليومية للعامة، إذ يقول في "البصائر والذخائر"، "وهذه نتف ألفتها هاهنا، فبعضها مسموع من العامة، وبعضها مروي عن الخاصة التي تروي عن العامة، وهي تجري مجرى الأمثال المبتذلة، فيها طيب ومع الطيب عبرة، ومع العبرة فائدة، وقد خلت من الأصول الدالة على الفروع، ومن العلل المقتضية للأحكام، وقد عرضتها على علية الناس أسأل عن أسرارها ومدارها، وكيف كان قديمها وفاتحتها، وكيف انتشرت الآن بين العامة، وكيف أشكل على الجميع معانيها". ثم سرد 50 معتقدا شعبيا منها، وبعضها لا يزال معمولا به بين العوام في الحياة اليومية، ومما ذكره "إذا طنت أذن أحدهم قال: من ذكرني؟، وإذا مسح أحدهم يده بثوب صاحبه بصق، وقال: حتى لا أبغضه"، وأشار إلى بعضها أيضا في موضع آخر، وعد منها "يحذف الصبي سنه إذا سقطت، ويقول: أبدليني بها أحسن منها، ويزعمون أنه إذا لم يقل ذلك ستنبت أسنانه عوجاء".
يلحظ أن التوحيدي قد وصف الظاهرة، لكنه لم يذكر لها مصطلحا تعرف به، وفي تحليله هذه الظاهرة أرجع سببها إلى "جهل الطباع وفساد المعرفة"، ثم قال "وهكذا الفرس في كثير من أمورها وعاداتها وأخبارها ورواياتها". وقد أعاد إثارتها في كتابه "الهوامل والشوامل"، وسأل عنها الفيلسوف مسكويه، فجاءه الرد "هذه المسائل وأشباهها إنما ينبغي أن يهزأ بها ويتملح بإيرادها على طريق النادرة، فأما أن تطلب لها أجوبة فما أظن عاقلا يعترف بها، فكيف نجيب عنها؟، والله يغفر لك ويصلحك".
ويتضح من إجابة مسكويه أنه عالم نخبوي أمام عالم أثنوجرافي معني بدراسة الحياة اليومية، وتحليل أفكار العوام، ومحاولة إضفاء تفسير عقلاني على سلوك يبدو أنه غير عقلاني. ويبدو أن مسكويه نظر إلى هذه العوائد من منظور علمي وعقلاني فاحتقرها، ولو رآها من منظور معرفي لتوصل إلى إجابة؛ لأن الإنسان العادي يولد معارفه ويبني واقعه من تصوراته البسيطة، ثم يؤمن بها فتكون عادة وتقاليد متوارثة، وتترسخ في الذاكرة الشعبية عبر الأجيال، بدليل أن بعضها لا يزال يتكرر بين العامة من الجاهلية حتى الآن، ولم يستطع العلم الحديث والتعليم المنظم أن يتجاوزاها.
يبدو أنه من الممكن رصد الحقب التاريخية المنقطعة والمجهولة بسبب عدم التدوين التاريخي والاجتماعي لها، من خلال تتبع عادات الشعوب ومعتقدات العامة، خاصة إذا تأكد وجودها قبل الحقبة المجهولة وبعدها، ما يؤيد أنها منغرسة في ذاكرة الشعوب واللاوعي الجمعي للمجتمع.

المعتقدات الشعبية
عند الشعوب
رصد بيار كانافاجيو في كتاب "معجم الخرافات والمعتقدات الشعبية في أوروبا" عددا منها بشكل يكشف أنها ظاهرة اجتماعية تتكرر في كل الحضارات، مثل: من يولد يوم الأحد يكون معصوما من الشرور، ويضع المتثائب يده أمام فمه ليمنع الشيطان من دخول فمه، والتشاؤم من الرقم 13. وكتاب "المعتقدات الشعبية في دولة الإمارات" 2017 لإبراهيم الهاشمي وعائشة بالخير، وقد تضمن فصلا عن المعتقدات الشعبية في مجالات متعددة، منها التفاؤل والتشاؤم. وتكثر دراسات هذه الظاهرة في المغرب العربي بين العرب والأمازيغ، نظرا إلى اهتمام الفرنسيين بالظواهر الاجتماعية في المغرب العربي، ما أثرى المنتج المعرفي في تفاصيل الحياة اليومية للعامة.
يبدو أن انتشار المعتقدات الشعبية بين شعوب كثيرة ومراحل تاريخية متباعدة، يؤكد أنها فكرة انتشارية، يتوصل إليها الإنسان البدائي بحدسه وخبراته البسيطة، لوجود مشتركات إنسانية في أسلوب التفكير المنطقي عند العوام.
المعتقدات الشعبية
يلحظ من كمية المعتقدات الشعبية التي اطلعت عليها في ثقافات الشعوب أنها إما أن تجلب نفعا، أو تدفع ضررا عن الأفراد المؤمنين بها، وهذه جزئية مهمة في تفسير الظاهرة، كما أنها ظاهرة ملتصقة بالتفكير البدائي، إذ غالب من يؤمن بها ويوليها أهمية في حياته هم من صغار السن أو العوام، وهؤلاء ليس لديهم قدرات إدراكية وتحليل منطقي أو علم منهجي يمكن أن يساعدهم على التخلص من تأثير المعتقدات الشعبية في تصوراتهم للحياة. وأن الإنسان العادي في الجاهلية كان يواجه ظواهر صحية وطبوغرافية وفلكية ونحوها، وإذا عجز عقله عن فهمها فإنه يلجأ، في رأيي، إلى التفسير الاجتماعي المبسط ليريح ذهنه من التساؤل، ويخفف حدة القلق الذي تسببه له هذه الحالات التي تواجهه، ومن ثم حولها إلى معتقدات شعبية.

أسطورية المعتقدات الشعبية
ارتبطت الأسطورة بالإنسان البدائي الذي يلاحظ الظواهر الاجتماعية لكنه يعجز عن تفسيرها، ثم يوجد لها تفسيرا بدائيا، ويؤمن به، ويحميه بالقصص والحكايات التي تدعم تفسيره. وقد درس رولان بارت الأسطوريات في الحياة اليومية، وأكد أن الإنسان اليوم لا يزال ينتج أساطيره، وحاول تفسير لجوء الإنسان المعاصر إلى ممارسات يومية، تحمل في بذورها مفهوم الأساطير، مثل المصارعة والموضة. كما بذل عبدالسلام بن عبدالعالي جهدا مماثلا في كتابه "ميتولوجيا الواقع".
ولست متأكدا من أن المعتقدات الشعبية في الحياة اليومية يمكن أن تتحول إلى أسطوريات بحيث يمكن للإنسان المعاصر الآن أن يؤمن بمعتقدات شعبية عصرية جديدة، لكنها تحمل معها بذور المعتقدات الشعبية القديمة، إذ توجد ظاهرة جديدة/ قديمة تلتقي مع المعتقدات الشعبية في جوانب، وتختلف عنها في أنها فلسفية غير حسية وليست تفسيرية للتغيرات في حواس الإنسان وجسده، مثل تنميل القدم وطنين الأذن ورفيف الرمش، إلا أن من يؤمنون بها هم من طبقة المثقفين ومن النخب في المجتمع، مثل: الاعتقاد بأن أول موقف يبدأ به الشخص يومه سيكون حاسما في بقية اليوم، وقد قابلت أشخاصا إذا بدأ يومهم بموقف سلبي فإنهم يؤجلون كثيرا من أعمالهم ذلك اليوم، أو التفاؤل بيوم محدد في الأسبوع أو التشاؤم منه، وأعرف أشخاصا يؤمنون بأن الخير كله في يوم الثلاثاء، في حين يرى غيرهم أن الثلاثاء يوم بؤس، ولا يمكن أن يعقدوا اجتماعاتهم المهمة فيه. وكل فئة لديها من القصص والشواهد ما يؤكد معتقدها الشعبي الجديد، ومثل ذلك المتفائلون والمتشائمون بألوان معينة، وأماكن محددة، وكذلك أنواع السيارات والأشخاص.
تمثل هذه المعتقدات الشعبية الجديدة فلسفة لرؤية الحياة اليومية، وتكتسب رسوخها بصيانتها في المواقف والتشبث بها كنظرية مفسرة للواقع كلما تصادف صدقها. ولا شك أن المعتقدات الشعبية سواء القديمة أو الجديدة تنطلق من ذهنية واحدة، لكن تختلف مبررات الاعتقاد بها بين الفئات التي تؤمن بها عن قناعات مترسخة عبر الأجيال، وبين من يتخذها فلسفة خاصة في حياته.

*علم اجتماع المعرفة “دراسات الحياة اليومية”
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق