Author

المحاسبة والنزاهة .. اتهام أم التقاء؟

|


في العادة، لا تتعرض المهن إلى الاتهامات. لو نظرنا إلى المهن التي يُعتقد أنها كانت وبالا على المجتمعات، فلن نجد شيئا حقيقيا. فالمهن، بغض النظر عن تصورات الآخرين، قد تتأثر بالعواطف حبا وكرها، ولكنها تظل مهنا كريمة، تدر دخلا على صاحبها، وتسد فراغا اقتصاديا واجتماعيا. وفي حالات أخرى، قد تكون بعض المهن خارج إطار المهن غير المقبولة، مثل: مهنة القاتل المأجور، وتاجر المخدرات، والمتستر الخفي، وهي في الأساس ليست مهنا يمكن الاعتراف بها على هذا الوجه. ومع ذلك، تعرضت مهنة المحاسبة خلال العقدين الأخيرين إلى كثير من الاتهامات التي جعلت البعض يظن وجود علاقة بين مشكلة الفساد والمحاسبة كمهنة، وهذا طبعا وهْم محض، فالواقع يجري على العكس تماما.
بالغوا في اتهام المحاسبة حتى وصل الأمر أن اعتقد البعض أنها سبب رئيس للأزمة المالية العالمية في 2008، وهناك من يؤكد أن محاسبي الضرائب دليل فشل الرأسمالية، وهناك من يعتقد أن كل جريمة تحصل في عالم المال والأعمال خلفها محاسب، وكل هذا لا أساس له من الصحة، فالمحاسبة كانت - ولا تزال - الوسيلة التواصلية الأساسية التي تمكن المستثمرين من التخاطب والتفاعل على مختلف دياناتهم وأعراقهم ومواقعهم، وتمكن نقل المصانع من دولة إلى أخرى، وتسمح بمراقبة التبرعات وإعطاء التعهدات، وتعالج قياس المخزونات الطبيعية وغير الطبيعية من الثروات، والقائمة لا تنتهي إلا عند نهاية تعاملات البشر الاقتصادية بشتى أنواعها.
تتجلى أهمية المحاسبة في كونها خط دفاع رئيسا في محاربة كثير من الأفعال السيئة، وفي تفعيل كثير من المبادئ على أرض الواقع، فهي من ممكنات ممارسة الشفافية والانضباط والتفاعل الإيجابي بين شتى الأدوار في أي مجتمع. وعند النظر إلى نشأة المحاسبة تاريخيا، نجدها ترتبط ارتباطا وثيقا بالضبط والمساءلة، وهي من أهم متطلبات تأكيد النزاهة ومحاربة الفساد. واليوم، حُددت أدوار المحاسبة والمراجعة وكثير من المهن الشقيقة الأخرى بشكل أكثر تفصيلا من ذي قبل، وأصبحت الرؤية جلية، مثلها مثل أي مهنة أخرى. قد تُستغل المحاسبة بشكل سيئ من قِبل ضعاف النفوس، وتسقط عندها جدران النزاهة، وتتحول إلى فرصة لمجرم يمارس عن طريقها الفساد، وقد تُمارس بشكل متفق مع ما يتعارف عليه المهنيون المحترمون، وتصبح جدار الحماية الأهم عند الحديث عن حماية أي نوع من أنواع الثروات.
للمقارنة، المحاسب مثل الطبيب، فهناك طبيب يهمل إهمالا جسيما يضر بمرضاه، وهذا غير مؤتمن على مهنته ومرضاه، ويستحق العقاب، وهناك طبيب مجرم يتاجر في أعضاء البشر، ويستغل مهاراته لممارسة ما يُستهجن من الأفعال. ومن جانب آخر، هناك من الأطباء من يجدد للناس الأمل، ويساعدهم على تفادي وعلاج كثير من أعراض الخلل والمرض، وهناك من المحاسبين كذلك. الضابط في المسألة يرتبط بعدد من العوامل، منها: حسن انتشار المبادئ والقيم الإيجابية، وقوة الممارسات المحلية، ودعم النظام وتأييده لهذه الممارسات، والوعيان العام والخاص بهذه المسائل، طبًّا كان المجال أو محاسبة.
أقامت الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين قبل يومين ملتقى "دور مهنة المحاسبة والمراجعة في تعزيز النزاهة"، بالتعاون مع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة"، وفي مثل هذه الفعاليات يتم تسليط الضوء على الممارسات المهنية المحاسبية ودورها في حماية النزاهة ومكافحة الفساد المالي، من خلال التعرف على الوضع الراهن لمهنة المحاسبة والمراجعة، والحوكمة وتعزيز النزاهة. في ملتقى مثل هذا، تتشكل نافذة مهمة للنظر إلى ملامح الواقع المحلي حول علاقة المحاسبة بالنزاهة، وطبيعة مشاركيه، وهم اليوم من خيرة المهنيين في هذه المجالات على مستوى المملكة، وطبيعة التحديات التي تتطلب النظر والالتفات.
في دراسة محكمة تم تنفيذها على مجموعة من الدول، وجد الباحثون أن العلاقة بين الشفافية في التقارير المالية وجودة معايير المحاسبة والمراجعة ترتبط ارتباطا وثيقا بالفساد المتوقع وجوده، فكلما قلت جودة المحاسبة والمراجعة، زادت توقعات الفساد، وهذا لا يختلف عن المقاربة نفسها المذكورة أعلاه، فتحسُّن ممارسات الطب يقود إلى تحسن النتائج الصحية، بينما تدهور ممارساته يعني تدهور الحالة الصحية للإنسان. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم اتهام مهنة الطب في سرعة وفاعلية علاج وباء قاتل يهاجم قرية ما، أو هجمة مفاجئة بسلاح كيماوي غير معروف من قبل، ولكن قطعا سيتطور الطب بعد هذه الحوادث؛ لأنها سبب كافٍ لإعادة توجيه الأبحاث والجهود نحو حل هذه المشكلة الجديدة، وهو ما ننتظره من أي مهنة تقوم على مثل هذه المسؤوليات الإنسانية العظيمة.

إنشرها