Author

ماذا بين التأهيل والتوظيف والإنتاجية والتقنية والابتكار؟

|

قضايا "التأهيل والتوظيف والإنتاجية والتقنية والابتكار" قضايا رئيسة، تهم كل وحدة استراتيجية تتطلع إلى المستقبل، ابتداء من الإنسان الفرد حتى الأوطان، والعالم بأسره، مرورا بالمؤسسات بشتى أنواعها وقطاعاتها وميادين عملها. وتكتسب هذه القضايا أهمية متزايدة مع الاعتماد المتنامي الذي يشهده العالم، على المعرفة المتجددة والمهارات المتطورة، ومع التقدم التقني المتصاعد، والمنافسة المتعاظمة على التميز والتفوق على الآخرين. وليست هذه القضايا منفصلة كلٌّ بذاتها، بل هي قضايا مترابطة ومتكاملة، كسلسلة واحدة متراصة. ولعل العنصر الرئيس الجامع لهذه السلسلة هو "المعرفة المتكاملة" التي تعبر عن "المشهد الشامل" للوحدة الاستراتيجية المعنية بالقضايا الخمس. وتشمل هذه المعرفة ليست فقط معرفة التأهيل المطلوب لهذه الوحدة، بل معرفة السوق والمنافسة والمشكلات القائمة، إضافة إلى الاهتمام بالتفكير والتجديد فيها. وغاية هذا المقال طرح هذه القضايا عبر منظور عام، ينظر إلى كل قضية على حدة، في إطار رؤية تكاملها مع القضايا الأخرى.
إذا بدأنا بقضية "التأهيل"، نجد أن لها ثلاثة جوانب رئيسة: الجانب الأول جانب التأهيل "بالمعرفة والمهارات الأساسية"، التي يحتاج إليها كل إنسان في حياته العامة في هذا العصر. أما الجانب الثاني فهو جانب التأهيل "بالمعرفة والمهارات التخصصية" اللازمة لأداء أعمال مهنية محددة، ويرتبط هذا الجانب بحياة الإنسان الوظيفية وإنتاجيته. ونأتي إلى الجانب الثالث، وهو جانب "التفكير"؛ بمعنى عدم الاكتفاء بتلقي المعرفة والمهارات فقط، وإنما التفكير فيها بهدف الإبداع والابتكار في مجالاتها، والسعي إلى تطويرها، وفتح آفاق جديدة للمستقبل بشأنها، وهذا الجانب يجب أن يكون موازيا لكل من الجانبين السابقين، ومشتركا معهما، بل مفعلا لاستيعابهما والاستفادة منهما، وهو جوهر التجدد المتواصل الذي يقود المعرفة نحو مزيد.
وننتقل إلى قضية "التوظيف"، وليس هذا الأمر مرتبطا فقط بإيجاد وظيفة متوافرة في المجال المناسب لجانب التأهيل الثاني؛ أي ذلك الخاص "بالمعرفة والمهارات التخصصية"، بل هو متعلق أيضا بالسعي إلى ريادة الأعمال في هذا المجال؛ حيث يساعد الجانب الثالث للتأهيل، ألا وهو "التفكير"، على ذلك. وهناك بالطبع علاقة وثيقة بين "التأهيل" من جهة، و"التوظيف" من جهة أخرى؛ حيث لابد للجانب الثاني للتأهيل؛ أي التأهيل التخصصي، أن يكون واعيا لمجالات سوق العمل والوظائف المتوافرة فيها، وآفاق النشاطات والوظائف في مجالاتها. وتجدر الإشارة إلى أن الوظائف لا تكون مرضية أو مبررة، ما لم يكن مردودها مرتفعا؛ بمعنى أن تكون إنتاجيتها أعلى مما ينفق عليها؛ أي أن تعطي أكثر مما تأخذ، فإذا كانت تأخذ أكثر مما تعطي، فهي غير مبررة، أو هي ناتجة عن بطالة مقنعة، وليس عن توظيف فعلي.
وهكذا نجد أنفسنا مع "الإنتاجية" نتطلع إلى "تفوق العطاء على الأخذ"، وهنا تبرز حقيقة أخرى هي أن هذا التفوق، على الرغم من أهميته، إلا أنه غير كاف، فهناك مع الإنتاجية في أي مجال من المجالات "منافسة مع الآخرين". وعلى ذلك، لابد لعطاء الإنتاجية من "التميز" في مثل هذه المنافسة ليأخذ هذا العطاء القيمة التي يتطلع إليها. وكثيرا ما نسمع عن إغلاق مصانع أو التوقف عن منتجات بعينها، على الرغم من أنها تقدم منتجات مفيدة، وغالبا ما يكون السبب عدم قدرة هذه المنتجات على إرضاء السوق؛ بسبب تميز منتجات المنافسين الآخرين، أو ربما ظهور منتجات جديدة تغني عنها. وعلى ذلك فإن الإنتاجية، حتى لو كانت تعطي قيمة مفيدة، إلا أن هذه القيمة تبقى كامنة أو معطلة، ما لم تحظَ بالاستقبال المطلوب من السوق المستعدة لدفع قيمتها من أجل الاستفادة منها.
يكمن التميز المطلوب للمنافسة في صفة أو صفات مرغوبة يتحلى بها المنتج في السوق. فصفات جاذبية شكل المنتج، وجودته، وحسن أدائه، ومستوى صلابته في تجنب المشكلات والأعطال، وانخفاض تكاليفه -على سبيل المثال- صفات مرغوب التميز فيها، وكثيرا ما ترتبط مثل هذه الصفات بمتطلبات إجراءات عملية الإنتاج التي تتضمن الكفاءة والدقة والفاعلية والرشاقة. وهنا تبرز قضية "التقنية"، فللتقنية في هذا المجال دور مهم في جانبين رئيسين، هما: جانب الإجراءات التقنية اللازمة لتقديم منتج تقني مفيد من ناحية، ثم جانب المنتج التقني ذاته من ناحية أخرى. ويبرز "الذكاء الاصطناعي" في الوقت الحاضر، وبشكل متزايد، في كل من جانبي قضية التقنية، فهو في تقنيات صناعة المنتجات ينافس العاملين في الإنتاجية والأداء، وهو في المنتجات ذاتها يؤدي دورا يجعلها أكثر إيجابية.
وهكذا يبدو مما سبق أن دور التقنية لا يقتصر على إيجابية تفعيل الإنتاجية، بل يشمل سلبية منافسة الإنسان على الوظائف. وبما أن الوظيفة ترتبط بالتأهيل، فالأمر يعود إلى التأهيل أيضا. وفي إطار التحديات الوظيفية عبر الذكاء الاصطناعي، نجد أنه لابد للتأهيل في جانبه التخصصي والمهني وجانبه المرتبط بالتفكير، من الاهتمام بالتوجه نحو تأهيل الإنسان لوظائف ذكية يصعب على الذكاء الاصطناعي توجيه الآلة نحو أدائها. وتبرز هنا "قضية الابتكار" التي تتطلب الاهتمام ببناء ثقافة تحفز الإنسان على تقديم أفكار جديدة ابتداء من "التأهيل فالتوظيف فالإنتاجية فالتقنية"، ثم السعي من خلال ذلك إلى إيجاد قيمة مضافة في كل من هذه القضايا، تعزز القدرة على كسب المنافسة، والإسهام الفاعل في التنمية، وتعزيز استدامتها.
علينا في هذا العصر، وعلى جميع المستويات، تطوير تعاملنا مع قضايا "التأهيل والتوظيف والإنتاجية والتقنية والابتكار". لابد أن ننظر إلى هذه القضايا بمنظور متكامل يرى جوانبها المختلفة، ويستوعب التفاعل فيما بينها، ويدقق بعمق في كل منها. نريد "تأهيلا" يتفاعل مع حياة العصر، ويسعى إلى الاستجابة للوظائف التي يحتاج إليها، نريد من هذه "الوظائف" أن تتمتع "بإنتاجية" تقدم عبر منتجاتها قيمة فاعلة قادرة على المنافسة في السوق، نريد "تقنية" تعزز الإنتاجية، وتزيد قيمة معطياتها، ثم نريد بيئة تحفز التفكير، وتشجع "الابتكار" في جميع هذه القضايا؛ كي تعم الفائدة على الجميع.

إنشرها