Author

اليورو وجد ليكون ثانيا

|
كاتب ومستشار اقتصادي


في نهاية 2018، بلغ عدد دول الاتحاد الأوروبي 28 دولة، في حين بلغ عدد دول الشنجن 26 بلدا "بريطانيا وإيرلندا لم تدخلا الشنجن"، وتتعامل 19 دولة من الـ28 بعملة اليورو الموحدة"، يزيد العدد بإضافة "الفاتيكان، موناكو، وكوسوفو، وغيرها". ويتعامل اليوم بالعملة الأوروبية الموحدة ما يربو على 400 مليون شخص في الدول التي عملتها اليورو، وتربط 17 دولة عملاتها الوطنية بالعملة الأوروبية.
اقتصاديا، كانت نظرية روبرت ماندل Robert Mundell عالم الاقتصاد الأمريكي المسماة "منطقة العملة المثلى" Optimum currency area، التي قدمها للمرة الأولى أثناء مؤتمر اقتصادي في مدريد أوائل السبعينيات، هي التهيئة النظرية التي قامت عليها العملة الأوروبية الموحدة، ونال ماندل بسببها جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1999 بالتزامن مع الانطلاقة الأولى للعملة الجديدة، وأصبح يلقب بفضلها بـ "أبو اليورو".
تاريخيا، انطلقت عملة اليورو رسميا في كانون الثاني (يناير) 1999 بـ 11 دولة فقط، وأخذت التهيئة لبداية تداولها فعليا ثلاثة أعوام، كانت أسعار السلع تكتب عليها قيمتها باليورو بجانب العملة الوطنية للدولة التي تباع فيها، وفي مستهل عام 2002، تم ضخ اليورو في الأسواق كعملة موحدة، وسحب جميع العملات الوطنية من التداول.
بالتأكيد، زامن طرح اليورو كعملة موحدة عديد من التساؤلات حول ما إذا كان ميلاد اليورو هو إعلان نهاية هيمنة الدولار، ودخول العملة الأوروبية لمزاحمته والتفوق عليه، وناقشت بحوث ومقالات وتنبؤات هذا الموضوع باستفاضة، خصوصا في السنوات الأولى لطرح العملة الموحدة.
إلا أن ما تعرضت له أوروبا بعد الأزمة المالية العالمية ممثلا في أزمة ما يعرف بدول الخنازير PIGS - "اختصار للحروف الأولى للبرتغال، إيطاليا، اليونان، وإسبانيا، وتكون PIIGS بإضافة إيرلندا" خلال الأعوام 2009 - 2012 ، أوقف أي حديث أو تفاؤل بشأن منازعة اليورو عرش الدولار. فقد وجدت الدول الكبرى في منطقة اليورو، خصوصا ألمانيا وفرنسا نفسيهما في ورطة كبيرة، ووجب عليهما التدخل لإنقاذ الدول التي وقعت في أزمة.
وما اتضح خلال الأزمة أن الدول التي تأثرت بها لم تستطع استخدام أدوات السياسة النقدية نتيجة القيود التي تفرضها العملة الواحدة، كما تجاوزت ديون كثير من دول اليورو النسبة المحددة في الاتفاقية التي تنص على ألا تزيد ديون الدولة العضو على 60 في المائة من حجم ناتجها، كما زادت عجوزات الموازنات في دول كثيرة على 3 في المائة، وهي النسبة المحددة للعجز السنوي في ميزانية البلد العضو.
والنتيجة الواضحة بعد مرور 20 عاما على إطلاق العملة الأوروبية الموحدة، أنها ما زالت تقبع خلف خضراء الظهر "لقب للدولار" بمراحل كثيرة، فما زالت العملة الأمريكية بنهاية 2018 تشكل 62.5 في المائة من احتياطيات البنوك المركزية في العالم، مقابل 20.4 في المائة فقط لليورو، "4.8 في المائة للين الياباني، وقريبا منها للجنيه الاسترليني".
ورغم ربط 17 دولة عملاتها الوطنية باليورو - "معظمها دول إفريقية كانت مستعمرات أوروبية سابقة" - في مقابل 13 دولة تربط عملاتها الوطنية بالدولار، إلا أن حجم التجارة العالمية باستخدام الدولار يفوق بمراحل حجمها باستخدام العملة الأوروبية، وعلى رأسها النفط المسعر بالدولار وليس اليورو، كما تربط الصين - وهي الثانية عالميا على مستوى الاقتصاد - عملتها بالدولار وليس اليورو.
ومما يدعم استمرار الدولار مهيمنا على العملات العالمية أيضا من دون الخشية من مزاحمة عملة أخرى سيادته - نوعية الاقتصاد أو عصر الاقتصاد الجديد، فاقتصاد أمريكا يتزعم اليوم الاقتصاد الرقمي، مبتعدا بمسافات ضوئية كبيرة عن الجميع. فـ "جوجل" و"ياهو" و"أبل" وأمازون" و"فيسبوك" و"تويتر" وغيرها - كلها شركات أمريكية في مقابل فقر الدول الأوروبية في هذا النوع من المنتجات الرقمية الجديدة، التي أصبحت تقييمات شركاتها تفوق تقييمات الشركات التقليدية العالمية بمراحل كثيرة.
والخلاصة هي أن اليورو - وبعد 20 عاما من إطلاقه رسميا - لا يشكل أي تحدٍّ للدولار، حتى مع تفضيل بعض الدول أو الشركات استخدامه في تجارتها، أو إصدار أوراق دين مقومة باليورو، فالأمر لا يعدو كونه توسيعا لدائرة الخيارات فقط، فالواضح أن اليورو وجد ليكون ثانيا، وسيستمر - حسب المؤشرات - في هذا المركز للـ 20 أو الـ 30 عاما المقبلة، والعلم عند الله سبحانه.

إنشرها