Author

هل الثقافة كائن حي؟

|

من خصائص الكائن الحي أنه يمر بمراحل عدة، وتحولات حسب الظروف والأوضاع التي يمر بها، وهذا الأمر ينطبق على الإنسان والحيوان والشجر؛ فالإنسان يولد ضعيفا، لا يعلم، ولا يستطيع من أمره شيئا، يعتمد على الآخرين في مأكله ومشربه ولباسه ونظافته، لكن مع الوقت تنمو حواسه وقدراته، ويبدأ في اكتساب مهارات الحياة التي لابد من اكتسابها؛ حتى يستقل، ويعتمد على ذاته، ويصلب عوده من خلال الخبرات والمواقف التي يمر بها في مراحل العمر المختلفة في أوضاعها، كما قال الله تعالى: "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا"، وهذا الأمر ينطبق على النبات؛ حيث وضع البذرة أو الشجيرة في التربة مع العناية بها؛ لتنمو وتزهر وتثمر، وبعد مدة حسب نوع الشجرة تبدأ بالضعف حتى تموت كما قال الله تعالى: "وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج".
الثقافة بمفهومها الشامل، وليس الجزئي ينطبق عليها ما ينطبق على الكائن الحي، ولعل من خلال قراءة تاريخية لثقافات الأمم يتأكد لنا انطباق المفهوم الحيوي للثقافة؛ إذ إنها ليست ساكنة، وغير متحركة ومتحولة، بل قد تبدأ بشكل بسيط ومحدود في مجتمع من المجتمعات، ويأخذ بها، وتتمسك مجموعة محدودة من الناس بها، وقد يكون رهطا حسب التعبير القرآني، وربما يمارسون طقوسهم الثقافية على خوف أو استحياء من الناس، لكن مع مرور الوقت يزيد الآخذون بالثقافة، وتقوى شوكتهم، ويكون لهم ولثقافتهم حضور قوي حتى تتغلغل ملامحها والمؤشرات الدالة عليها في كل مرافق المجتمع وأوساطه المختلفة، مع اختلاف أجناسهم وأعراقهم وأعمارهم ومستوياتهم التعليمية.
حيوية الثقافة يؤكدها الانتشار الجغرافي الذي تصل إليه؛ ولذا نستطيع القول إنها عابرة للحدود، طالما وُجِد من يتبناها، ويقنع الآخرين بها، سواء في سلوكه وتصرفاته، أو في نقاشه ومنطقه المقنع. وعليه، لا يمكن القول إن الثقافة محدودة بالحدود الجغرافية للبلد الذي وجدت فيه ابتداء، أو في العرق الذي ترعرعت بين أبنائه، كما أن انتشار الثقافة يؤثر فيه جودتها، ومنطقية مكوناتها، ومناسبتها لمتطلبات العصر مهما اختلفت طبيعته، وهذا يؤكد الثقافة النوعية؛ إذ يمكن القول إن هناك ثقافة إدارية للمنظمة، وثقافة لعمال المناجم، ولسائقي سيارات الأجرة، حتى إنه يمكن التمييز بينهم حسب الشركة التي ينتمون إليها، أو المجتمع الذي يعملون فيه.
كما أن حيوية الثقافة تؤكدها استمراريتها فترة طويلة تأخذ قرونا، وليست سنوات معدودات، فالثقافة الإسلامية استطاعت التمدد في مساحة جغرافية واسعة في سنوات قليلة، وبقيت متجذرة في نفوس المسلمين من أقصى شرق الكرة الأرضية إلى غربها، وأخذ ببعض جوانبها غير المسلمين، ولا تزال الأجيال تتفاعل معها، وتحافظ عليها جيلا بعد جيل، رغم أنها دخلت إلى مجتمعات أشبه بالمغلقة، ومع ذلك تمكنت من التفاعل مع الثقافات المحلية، وإحداث التغيير في ثقافات المجتمعات، والإبقاء على ما لا يتعارض مع مبادئ الإسلام وأحكامه.
الصمود في وجه الحروب الثقافية التي تشن على الثقافة الإسلامية يمثل ملمحا قويا على حيوية الثقافة، لاسيما في الوقت الراهن؛ حيث التقنية، وإبداع الإخراج، وسرعة الانتشار، وقوة التأثير، ومع كل هذا تمكنت من مواجهة التحديات؛ إذ تمكن أبناؤها والمنتسبون لها من النزول إلى الميدان في مبارزات فكرية تبين اللبس، وتوضح الغامض، وتشرح وتفسر المجمل، وتقبل المفيد من ثقافات الآخرين وموروثاتهم، "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
الانفتاح على الثقافات الأخرى، وعدم الانغلاق في وجهها يمثل أحد ملامح حيوية الثقافة، ومن الأمثلة على انغلاق الثقافة انهيار الاتحاد السوفيتي الذي تبنى الفلسفة الاشتراكية خلال 70 عاما؛ لعدم منطقيتها، ولانغلاقها، وعدم قبولها الثقافات المحلية للدول المكونة له، واتباع أسلوب الفرض للثقافة الاشتراكية، وإحلالها محل الثقافات المحلية، ما أوجد رفضا نفسيا وعقليا، وإن لم يكن ظاهريا في بعض الحالات، وهذا ما تكشّف بعد سقوطه وتفككه؛ حيث عادت المكونات الاجتماعية لثقافاتها المحلية، وأصبحت تتباهى بها وتدافع عنها بقوة.

إنشرها