Author

التحول الرقمي .. نظرة إلى المتطلبات

|

التحول الرقمي مطلب مهم على المستويات كافة بدءا من الفرد، ثم المؤسسات والدول، ووصولا إلى العالم بأسره. هو "جزء من الفضاء السيبراني" المتطور الذي يحيط بالعالم المادي وهو "الممكن لكفاءة أجدى وفاعلية أعلى ورفاهية أكبر"، ليفتح الباب بذلك أمام "آفاق جديدة للتنمية"، مسهما في تطوير مجالاتها المختلفة. وليس التحول الرقمي حديث اليوم فقط، ولا حديث المستقبل فقط، بل هو حديث "العصر" منذ أن بدأت التقنية الرقمية بالانتشار وتسهيل التواصل وتفعيل الأعمال. وهو مستمر بإمكانات متجددة وخدمات متطورة بدأت لتعطي آفاقا جديدة غير مسبوقة لحياة الإنسان. وقد تحدثنا عن هذا "التحول" وتأثيره في مقالات سابقة، ونستكمل هذا الحديث هنا بالتركيز على متطلباته.
هناك دراسات عديدة حول متطلبات "التحول الرقمي"، لعل من أبرزها تلك الصادرة في ألمانيا عام 2017 عن "بلدان مجموعة الـ20 G20"، بالتعاون مع "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD". وقد قدمت هذه الدراسة توصيات لدول المجموعة بشأن الاهتمام بهذه المتطلبات. وسوف نطرح في هذا المقال المتطلبات الرئيسة لهذا التحول مستفيدين من الدراسات المختلفة، ولكن دون التقيد بدراسة معينة. وسيتم هذا الطرح من خلال إطار هيكلي يركز في رؤيته لمشهد التحول على أبعاد "الاستراتيجية، والتقنية، والإنسان، والمؤسسة، والبيئة STOPE". وقد تم استخدام هذا الإطار في بحوث عديدة تتعلق بقضايا التقنية وتطبيقاتها وأثرها وآفاقها المستقبلية.
إذا بدأنا "بالاستراتيجية" فإن هناك "منهجية" لوضعها يجب اتباعها، و"مضمونا" يجب أخذه في الاعتبار. تبدأ منهجية الاستراتيجية عادة بالنظر إلى "مشهد" الوضع الراهن للقضية المطروحة من مختلف جوانب مضمونة، فهذا المشهد هو منطلق الاستراتيجية المنشودة. وعلى أساس هذا المشهد يتم تحديد "الأهداف" المطلوب تحقيقها بعد زمن محدد، و"توجهات" الوصول إليها، إضافة إلى دراسة "متطلبات" ذلك و"الإمكانات" المتاحة، وحصر "الأولويات". وهنا يتم توثيق ما سبق في "وثيقة الاستراتيجية"؛ وانطلاقا من هذه الوثيقة يتم وضع "الخطط التنفيذية والمشاريع" التي تقود إلى الأهداف. ولابد أيضا من الاهتمام "بمراقبة" التنفيذ واستنباط الخبرات، خصوصا عبر المقارنة بين "الطموحات والمنجزات". يرتبط "مضمون" الاستراتيجية بالمحاور الأربعة الأخرى "للإطار الهيكلي" المطروح، وهي: "التقنية، والمؤسسات، والإنسان والبيئة TOPE"، والقضايا المرتبطة بها. فعبر هذه المحاور يمكن النظر إلى "مشهد الوضع الراهن" من جهة، و"المشهد المستقبلي المأمول" من جهة أخرى. إذا بدأنا بمتطلبات "التقنية" رأينا أنها "البنية الأساسية" للتحول الرقمي، هي البنية المعطاة للفضاء السيبراني المطروح التي تمكن خدماته. وتتسم هذه التقنية بالتقدم المستمر، بل المتسارع أيضا. هذه التقنية: هي "الإنترنت" وكل ما يرتبط بها من قنوات اتصال سلكية، وقنوات اتصال لا سلكية، وحواسيب خدمة، وحواسيب شخصية، وغير ذلك؛ هي أيضا "الحوسبة السحابية"؛ وهي "إنترنت الأشياء"؛ وهي "الذكاء الاصطناعي" الداعم لنشاطات عديدة؛ وهي "تحليل البيانات الكبرى"؛ وهي أنظمة جديدة ومتجددة كنظام "جوال الجيل الخامس"؛ هي كل ذلك، إضافة إلى معطيات جديدة ومتجددة، وبآفاق مستقبلية تبدو دون حدود.
إذا نظرنا إلى محور "المؤسسة"، نجد أن هناك ثلاثة أنواع رئيسة من المؤسسات: النوع الأول منها هو تلك القائمة على تقديم "خدمات البنية الأساسية، وهذه تحتاج إلى استثمارات تسعى إلى تطوير خدماتها، وإلى تحديثها بصفة مستمرة، تستجيب لتطورات التقنية ولطموحات الاستفادة منها على أفضل وجه ممكن. أما النوع الثاني، فهو المؤسسات المستفيدة من خدمات البنية الأساسية والساعية إلى "التحول الرقمي"، والاستفادة من هذه الخدمات في أعمالها المختلفة. تحتاج مثل هذه المؤسسات إلى "نماذج جديدة للعمل"، في شتى المجالات، تستند إلى التقنية الرقمية كي تحقق التحول المنشود بكفاءة وفاعلية. ومن أمثلة مثل هذه النماذج نموذج "مووك MOOC" في التعليم العالي، ونموذج "أوبر Uber" في خدمات النقل، ونموذج "أمازون Amazon" في المبيعات، ونموذج "أبشر" في الخدمات الحكومية في المملكة، وغيرها. أما النوع الثالث من المؤسسات، فهو النوع الخاص "بالإبداع والابتكار"، وتطوير التقنيات الجديدة، وتقديم النماذج التطبيقية، واقتراح المعايير المطلوبة، إضافة إلى القيام بالتنفيذ والإنجاز، وتزويد النوعين الأول والثاني بمعطيات جديدة ومتجددة تفعل التحول الرقمي وتعزز معطياته.
ونأتي إلى "محور الإنسان"، فإمكاناته ومهاراته هي مصدر العمل على تحقيق كل المتطلبات. وعلى ذلك فإن "توعية الإنسان وتأهيله علميا وتقنيا وأخلاقيا"، و"رعايته وتحفيزه"، وتعزيز "ثقافة الإبداع والابتكار" و"مرونة التطور والتطوير" لديه، أسس ينبغي الاهتمام بها كي يستطيع أداء دوره في المؤسسات المختلفة وفي المجتمع أيضا. ويضاف إلى ذلك بالطبع تأمين نفاذ الجميع إلى خدمات "البنية الأساسية"، والخدمات الرقمية الأخرى بتكاليف مناسبة تسهم في تفعيل "التحول الرقمي" وتعزيز "فوائده".
ونصل إلى "محور البيئة". في هذا المحور تبرز: "التشريعات والقوانين"؛ و"المعايير الفنية والسلوكية"؛ ومتطلبات "الأمن"؛ وقضايا "التعاون" بشقيها "الداخلي والخارجي". وعلى ذلك، يرتبط هذا المحور بمسألة "حوكمة التحول الرقمي"، وتقع مسؤوليته على عاتق "الدولة" الموجهة للنشاطات المختلفة. فلابد لكل دولة من السعي إلى تفعيل "التحول الرقمي"، والإسهام في "استراتيجيته"، وتنظيم شؤون "التقنية" التي يحتاج إليها، ودعم "المؤسسات" ذات العلاقة، ناهيك أيضا عن الاهتمام بإعداد "الإنسان" المهيأ لمتطلبات التحول الرقمي المنشود.
أمام رؤية "الاستراتيجية والتقنية والمؤسسة والإنسان والبيئة STOPE متعددة المحاور لمتطلبات التحول الرقمي، نحن أمام "مشهد متكامل" يغطي جوانب مختلفة من هذه المتطلبات، ويسمح بإضافة إليها أو التركيز على بعضها عبر هذه المحاور، تبعا للاحتياجات من ناحية، واستجابة للمتغيرات من ناحية ثانية. وعلى هذا الأساس يستطيع الدارس للمتطلبات أن يبدأ برسم مشهد "الوضع الراهن"، ثم رسم "المشهد المأمول" تبعا للمحاور المطروحة، والتخطيط "للتحول" من الأول إلى الثاني، والعمل على التنفيذ تبعا لأساسيات "منهجية" الاستراتيجية سابقة الذكر. ولاشك أن التحول الرقمي يستحق "الاستثمار" فيه. فهو وسيلة مهمة لتفعيل "التنمية" وتعزيز "استدامتها" على مستوى الأوطان، وعلى مستوى العالم بأسره، كما طرحنا في مقال سابق بشأن "أهداف التنمية المستدامة". فهو يقدم كفاءة أجدى، وفاعلية أعلى في شتى المجالات، ناهيك أيضا عن تقديم "رفاهية" أكبر للجميع.

إنشرها