default Author

التحولات الاقتصادية والتخلف الزمني

|

بعد أن أمضيت كثيرا من حياتي العملية في العمل مع البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية، لا يزال من المؤلم أن نشاهد خيبة الأمل التي كثيرا ما تسيطر على الناس الذين لديهم شجاعة تغيير الأوضاع السياسية السيئة، لكنهم يضطرون لاحقا إلى العيش في مصاعب اقتصادية. يبدو أن من اختاروا التغيير يعانون أكثر من غيرهم، ولكن ما يجدد الأمل هو أن ذلك لحسن الحظ لم يمنع الناس من المحاولة. وكان هذا الوضع ينطبق تماما على جنوب أوروبا أواخر السبعينيات، "على الرغم من أنني كنت لا أزال في المدرسة ذلك الوقت"، وبلدان وسط وشرقي أوروبا في التسعينيات، وعديد من البلدان الإفريقية في العقد الأول من القرن الـ21، وأيضا لما للتاريخ من عادة في تكرار نفسه تونس.
هناك بعض أوجه الشبه الملحوظة في هذه السياقات التي تبدو مختلفة جدا. أولا، يبدو أن سرعة التحولات السياسية تتخطى دائما التحولات الاقتصادية، ما يربط بين النظم السياسية المفتوحة والتراجع الاقتصادي. وبالنظر إلى بلدان مثل بولندا اليوم، من الصعب أن نتصور أنه في غضون بضع سنوات من الإطاحة بنظام قمعي، اختار الناس تقريبا نظام "رجل قوي" بسبب الصعوبات الاقتصادية الشديدة التي جاءت مع تحول اقتصادي طال أمده. وعانت إسبانيا محاولة انقلاب عسكري في غضون سنوات من تحولها، قام أيضا على عدم الرضا الاقتصادي. وشهدنا ردود فعل مماثلة، بدرجات متفاوتة، من جنوب إفريقيا إلى صربيا وأماكن كثيرة بينهما. وهناك إحساس آخر بالإحباط يأتي من حقيقة أن التغيير السياسي ليس خطيا وكاملا أبدا، وأن ما سيظهر دائما سيحتفظ ببعض عناصر الماضي، "وهذا يمكن أن يكون مزعجا للغاية في الواقع"، الأمر الذي يصعب قبوله كما جرت العادة.
ومع ذلك، وبالنظر إلى أن تونس تنظر ست سنوات إلى الماضي، وهناك شعور مبرر من خيبة الأمل مع التداعيات الاقتصادية الناجمة عن المرحلة الانتقالية، أود أن أقترح النظر إلى النتائج الإيجابية لتلك البلدان؛ حيث علقت الناس هناك خلال الأوقات الصعبة، واكتسبت مستقبلا أفضل. فمع الحديث مع رواد أعمال صغيرة وصغار المزارعين أخيرا في جنوب تونس، في منطقة تعاني بشدة انهيار السياحة، ذُهلت من أن الناس ما زالوا قادرين على رؤية فوائد الحرية السياسية، فكما قال شخص ما "قبل عشر سنوات، لم نكن نتمكن أبدا من الجلوس هنا وإجراء هذه المحادثة، ما كانت الشرطة لتسمح بذلك، وهذا يهمنا". ومن ثم، فهذا مؤشر حقيقي على القدرة على الصمود، كما هو الحال في عديد من المشاريع الصغيرة، التي تهدف إلى بناء نوع جديد من السياحة ليحل محل "النموذج القديم"، والنساء اللواتي يسيطرن على مستقبلهن كاللاتي بدأن جمعية تعاونية لتصنيع النسيج. في الواقع، لا يختلف هذا عن مبادرات مماثلة كان يمكن أن نراها في بولندا وبلغاريا في السنوات الأولى من التسعينيات.
إن الحجة المضادة التي غالبا ما تعطى للمقارنة بشرق ووسط أوروبا هي أن تونس ليست لديها "ميزة" العضوية في الاتحاد الأوروبي. وأود أن أعترض بأن تونس قد لا تكون قادرة على الطموح إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وهي دائما حافز للدول الأوروبية في المرحلة الانتقالية، لكنها لا تزال تستفيد من التكامل الاقتصادي الأعمق مع أوروبا. وبالاستماع إلى رواد الأعمال المبتكرين الشباب، فإن هذا التكامل هو بالفعل حقيقة واقعة، وآمل أن يتبع بقية القطاعات الاقتصادية. إن خيار التكامل الاقتصادي هو ما ينبغي لهذا البلد أن يختاره ويحققه؛ فهو سيستقطب الاستثمارات الخارجية، التي تساعد على بناء قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة في تونس، والسياحة الراقية التي يمكن أن تنعش المناطق في الجنوب والغرب بقدر انتعاش المناطق القريبة من الساحل.
وأخيرا، فإن الحجة الأكثر إقناعا للبقاء في المسار الحالي هي أن معظم البلدان التي واجهت المشكلات الاقتصادية في مرحلة التحول المبكر للاحتفاظ بالنظم الاقتصادية والإدارية المفتوحة انتهى بها المطاف في مكان اقتصادي أفضل بكثير، في حين أن العكس نادرا ما يصحّ. وبالتالي، فإن استكمال التحول السياسي قد لا يكون ضمانا للنجاح الاقتصادي، ولكنه يزيد كثيرا من فرص تحققه. ونحن نعلم أيضا من التجارب السابقة أن اقتران نظام سياسي مفتوح مع اقتصاد مفتوح عنصر حاسم لنجاح كليهما.
ومن أجل من عانوا خلال هذه السنوات العصيبة ينبغي أن نواصل الضغط على صناع القرار لفتح الاقتصاد التونسي بالطريقة نفسها التي فتح بها النظام السياسي سابقا. وبهذه الطريقة، سنستطيع في بضع سنين، أن نقتبس تونس بالطريقة نفسها التي نقتبس بها اليوم عديدا من البلدان كأمثلة ناجحة.

إنشرها