default Author

عقد اجتماعي جديد في زمن العولمة

|


هناك ضرورة اليوم لوجود عقد اجتماعي جديد يتلاءم مع معطيات الواقع الاقتصادي المتغيرة ويكفل التعامل بصورة أفضل مع الانعكاسات الاجتماعية للعولمة، ويشمل هذا العقد الاجتماعي سداد الضرائب مقابل الاستفادة من السلع العامة، وكيفية رعاية المجتمع لكبار السن والشباب وأصحاب الإعاقات، ومن تعرضوا لظروف عصيبة. ولأن العقد الاجتماعي يسترشد بالقيم في الأساس، فإنه يتيح حلولا تختلف باختلاف المجتمعات.
ومع ذلك، سيتعين على كل مجتمع أن يفكر في تحديد المستفيدين من شبكة الأمان الاجتماعي، وهي الآلية التي نقوم من خلالها بتجميع المخاطر وموازنة جانب من تأثير الحظ في فرص الحياة، وسيكون على كل مجتمع أيضا تحديد خياراته بشأن تقسيم المسؤوليات بين الأسر والقطاع التطوعي والسوق والدولة، وترجع أهمية ذلك إلى كون دولة الرعاية هي أيضا آلية إرساء المساواة بين جميع المواطنين حتى يتمكنوا من المشاركة الكاملة في الحياة العامة.
وهناك أسئلة جوهرية ينبغي الإجابة عنها، وهي أسئلة زادت تعقيدا في المجتمعات الأقل تجانسا والأكثر عولمة، فمن هم الذين نشعر تجاههم بالتزامات الرعاية والمشاركة في المخاطر؟ وما المسؤوليات المصاحبة لهذه الالتزامات؟ وإلى أي مدى تمتد الالتزامات إلى أبعد من نطاق الأسر لتشمل المجتمعات المحلية أو المناطق الأخرى؟ وماذا عن الفقراء في أجزاء أخرى من العالم؟ وهل نحن ملزمون بترك نصيب من رأس المال المادي والاجتماعي والطبيعي للأجيال القادمة يساوي، على الأقل، ما تركه لنا السابقون؟
وفي إطار العقد الاجتماعي الجديد، قد نحتاج إلى إعادة إدخال عنصر المعاملة بالمثل والتأمين في تقديم الرعاية الاجتماعية، فهناك تصور خطير مفاده أن هناك أناسا يعملون بجد وآخرين يستغلون ترتيبات الرعاية، إلا أن الواقع يقول، مثلما أوضح جون هيلز الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد، فيما يخص المملكة المتحدة، إن الأغلبية العظمى من الناس يحصلون طيلة حياتهم "في شكل تعليم ورعاية صحية ومعاشات تقاعد" على قدر يكاد يتساوى مع ما ينفقون من أموال "على هيئة ضرائب أثناء فترة عملهم". والأغنياء يدفعون ضرائب أكثر، لكنهم غالبا ما يعيشون فترة أطول، ومن ثم يستفيدون أكثر من معاشات التقاعد والرعاية الصحية عند تقدمهم في العمر.
ولعلنا في حاجة إلى إعادة النظر في الميزات السياسية والاجتماعية التي تتيحها المزايا المعممة، وهي وسيلة أفضل للحصول على التأييد السياسي وضمان الجودة. وقد كان مقصد وليم بيفريدج، الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد ومؤسس دولة الرعاية في المملكة المتحدة، هو أن تكون هذه الدولة قائمة على مفهوم التأمين الاجتماعي المعمم، وقد انقطعت هذه الصلة بالمقصد الأساسي مع تزايد الاعتماد على الضرائب العامة في تمويل شبكة الأمان الاجتماعي، وتفضيل بعض المواطنين الانسحاب منها للاشتراك في برامج يقدمها القطاع الخاص. وذكر ريتشارد تيتموس، أحد رواد البحث الاجتماعي في بريطانيا، أن "الخدمات التمييزية التي تقدم للفقراء بصورة منفصلة دائما ما تكون ضعيفة الجودة". ومن ثم، فإذا ظلت الشرائح الموسرة منخرطة في الخدمات العامة، يمكن أن يستمر الشعور بالالتزام المشترك ويستمر الضغط للتمسك بالمعايير الموضوعة في هذا الصدد.
فكيف يمكن للعقد الاجتماعي الجديد أن يعالج مشكلة عدم المساواة؟ تعلق أهمية كبرى في المدى المتوسط على السياسات التي تسمى سياسات ما قبل التوزيع - وهي المتعلقة بالتعليم، والحركية الاجتماعية، واستثمارات البنية التحتية في المناطق الأفقر، ونشر تحسينات الإنتاجية على أوسع نطاق، فالبلدان ذات الحركية الاجتماعية الأكبر تحقق معدلات نمو أسرع نظرا إلى كفاءتها في التوفيق بين الأفراد والوظائف المناسبة لهم، ما يولد مستوى أعلى من الإنتاجية "دراسة Hassler 1988"، وقد تكون أفضل طريقة لتعزيز الابتكار والإنتاجية، هي إتاحة فرصة للأفراد أمثال آينشتاين من المغمورين الذين همشتهم ظروف نشأتهم "دراسةVan Reenen and others2018"، ومن شأن زيادة الاستثمار في التعليم على نحو يحقق المساواة في الفرص والنتائج، أن يثمر عائدا مرتفعا ويعزز الثقة بعدالة النظام.
وهناك مشكلة جسيمة نواجهها أيضا في تحقيق العدالة بين الأجيال، فكثير من المجتمعات التي ترتفع فيها نسبة الشيخوخة، تنفق الآن على الكبار أكثر مما تنفق على الصغار، وتوضح البيانات الواردة من منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي أن الإنفاق على معاشات التقاعد يرتفع بنسبة 0.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي مقابل كل ارتفاع بمقدار سنة في عمر الناخب الوسيط "دراسة Ebbinghaus and Naumann 2018"، وكبار السن يقومون بالتصويت ويتسمون بفعالية كبيرة في حماية مصالحهم - وهو أمر ينبغي للشباب أن يقتدوا به، لكن كبار السن ينبغي ألا يقصروا اهتمامهم على أبنائهم وأحفادهم "الذين يمكنهم الحصول على الدعم المالي من خلال وصايا التوريث"، بل ينبغي أن يمتد إلى أبناء وأحفاد الآخرين، لأنهم سيعيشون في المجتمع نفسه، وأحد الحلول لهذه المسألة هو منح الشباب مستحقات مالية يمكن استخدامها لتحسين مهاراتهم على مدار حياتهم. وفي ظل هذا العقد الاجتماعي بين الأجيال، سيتمكن الشباب من رد هذا الاستثمار في المستقبل بدفع ضرائب أعلى يمكن توظيفها في تمويل الرعاية اللازمة لكبار السن.
وستستغرق قضايا العدالة والحركية الاجتماعية بين الأجيال وقتا طويلا لمعالجتها، ما يتطلب القيام بإعادة توزيع الدخل على المدى القصير، فالنظم الضريبية أصبحت أقل تصاعدية مع قيام الاقتصادات المتقدمة بتخفيض ضرائب الشركات والمعدلات الضريبية العليا على الدخل الشخصي في الثمانينيات والتسعينيات، علاوة على رفع ضرائب القيمة المضافة، ويشكل هذا معضلة كبيرة بالنظر إلى اتساع فجوة عدم المساواة بين الدخول المتأتية من السوق. ولأن عدم المساواة في الثروة فاق عدم المساواة في الدخل، ينبغي النظر في فرض ضريبة على الثروات، كالتركات والأراضي والعقارات. وتوضح أبحاث الصندوق الصادرة أخيرا أن تعزيز المساواة يدعم النمو، ومن ثم فإن هذه الإصلاحات قد تساعد أيضا على إنعاش الاقتصادات بطيئة النمو.

إنشرها