Author

إعداد الثروة البشرية .. ومتطلبات العالم السيبراني

|

الإنسان والطبيعة من حوله، ثنائية بديعة خلقها الله تعالى، فتفاعلت وأعطت، ولا تزال تعطي إبداعات ومبتكرات متجددة، تمنح الإنسان مزيدا من المعرفة ومزيدا من الإمكانات نحو استهداف حياة أفضل. في الطبيعة ثروة هائلة من الإمكانات، لكنها سلبية وكامنة؛ وفي الإنسان ثروة أخرى إيجابية، بل مدفوعة بحب الملاحظة والتفكير، واكتشاف إمكانات الطبيعة وتفعيلها والاستفادة منها. الطبيعة من دون الإنسان إمكانات جامدة؛ والإنسان من دون الطبيعة إمكانات معطلة. وعلى ذلك فإن إطلاق إمكانات الإنسان ثروة رئيسة في الحياة، تتمثل قيمتها في قدرتها على تفعيل باقي الثروات التي أراد الله للطبيعة أن تكون مخزنا لها.
يناقش هذا المقال قضية "إعداد الثروة البشرية"؛ كي تكون فاعلة في الحياة، وقادرة على اكتشاف مزيد من أسرار الطبيعة وإمكاناتها، وعلى الإبداع والابتكار في تفعيل هذه الإمكانات والاستفادة منها. وفي سبيل ذلك، لا بد للمقال من اختيار مجال مهم من مجالات الحياة الرئيسة، في هذا العصر، كموضوع للإعداد المنشود؛ ثم اختيار مكان متميز من العالم يقوم بهذا الإعداد، في الموضوع المطروح، للتعرف على ما يجري بشأنه.
المجال المهم المختار هو "تقنيات المعلومات والاتصالات والإنترنت، وما يرتبط بها من تطورات وتطبيقات وخدمات كثيرة ومتجددة دون توقف". يتميز هذا المجال بأنه بات الوسيلة الرئيسة في إدارة حياة الإنسان وحوكمتها اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. وقد بات يطلق على دور هذا المجال في حياة الإنسان لقب "الفضاء السيبراني" أو "العالم السيبراني"، الذي يدير مختلف شؤون "العالم المادي الحقيقي"؛ حيث تعني كلمة "سيبر Cyber"، المأخوذة من اللغة اليونانية، "الحوكمة والتحكم". والملاحظ في التقدم التقني للعالم السيبراني، أنه يزداد ذكاء في محاكاة إجراءات التفكير لدى الإنسان، وأن هذا الذكاء يزداد انتشارا في تطبيقات الحياة المختلفة، ليدخل بذلك إلى شؤون حياة مختلف الأجيال ابتداء من النشأة وما بعد ذلك، وليحتل مكانة تزداد أهمية في حياة الأمم. على أساس هذه الحقائق، نرى أنه لا بد من "إعداد الثروة البشرية" في هذا المجال ابتداء من النشأة، وليس فقط في إطار البرامج الجامعية، خصوصا أن هذا المجال بات متداخلا مع مختلف مجالات الحياة الأخرى.
ومن اختيار المجال إلى اختيار "المكان"؛ حيث تم اختيار "سنغافورة Singapore"، التي تولي "إعداد الثروة البشرية" في مجال "العالم السيبراني" اهتماما خاصا ابتداء من مراحل التعليم الأولى. دولة سنغافورة بدأت تاريخها كدولة مستقلة عام 1965، وهي مدينة في دولة؛ حيث لا تزيد مساحتها على 750 كيلو مترا مربعا؛ أي ما يقارب مساحة البحرين، وحيث يبلغ عدد سكانها 5.6 مليون نسمة. وينتمي هؤلاء السكان إلى ثلاثة أعراق رئيسة، وإلى خمس ديانات، بينها الإسلام؛ حيث تبلغ نسبة المسلمين نحو "14 في المائة". تتميز سنغافورة بأنها، عبر نشاطها منذ الاستقلال، باتت تصنف بين الدول المتقدمة. ففي التصنيفات الدولية الأخيرة الصادرة عام 2018، حققت سنغافورة المراكز التالية: الأولى في "دليل التنافسية العالمي GCI"؛ والخامسة في "دليل الابتكار العالمي"؛ والسابعة في "دليل الحكومة الإلكترونية"؛ والثامنة في "متوسط الناتج المحلي للفرد" مقدرا بالدولار.
تقوم سنغافورة، منذ عام 1997، بالعمل على إعداد الثروة البشرية للعالم السيبراني، وذلك عبر أربع خطط تعليمية متتالية. ما إن تتحقق أهداف خطة، إلا لتبدأ خطة أخرى تبني على منجزات سابقتها، كي يستمر العطاء دون توقف، مواكبا، وربما متقدما، على المسيرة العلمية العالمية في هذا المجال. كان عنوان الخطة الأولى "بناء الأسس Building the Foundation"، وقد ركزت على ثلاثة نشاطات رئيسة، خلال الفترة 1997-2002. وهذه النشاطات هي: "تدريب المعلمين على تقنيات المعلومات والاتصالات"؛ وتجهيز "البنية الأساسية لهذه التقنيات في جميع المدارس"؛ ثم التركيز على "التطبيقات في التعليم".
بدأت الخطة الثانية عام 2003، واستمرت حتى 2008، وحملت العنوان التالي: "نشر بذور الابتكار Seeding Innovation".اهتمت هذه الخطة بأربعة نشاطات رئيسة هي: "البحث العلمي والتطوير"؛ ووضع "معايير أساسية لتقنيات المعلومات والاتصالات في المدارس"؛ وتأمين "ميزانية خاصة لهذه التقنيات في جميع المدارس"؛ إضافة إلى "إجراء تكامل بين المناهج التعليمية في مختلف الموضوعات من جهة، وتقنيات المعلومات والاتصالات من جهة أخرى". وفي عام 2009 انطلقت الخطة الثالثة، التي امتدت حتى عام 2014، وحملت عنوانا يقول "التعزيز وتوسيع النطاق Strengthening & Scaling". وشملت هذه الخطة الاهتمام بالتالي: "التعلم الذاتي"؛ و"التعلم التعاوني"؛ و"تعزيز الحالة السيبرانية"؛ و"البحث العلمي والتطوير"؛ و"التطوير المهني"؛ و"بناء بيئة معيارية لتقنيات المعلومات والاتصالات في جميع المدارس".
الخطة التي يجري تنفيذها حاليا هي الخطة الرابعة التي بدأت عام 2015 تحت عنوان "قادرون على التعلم الرقمي ومسؤولون جاهزون للمستقبل Future-ready & Responsible Digital Learners". تضمنت هذه الخطة: "تعميق التكامل بين المناهج التعليمية، وتقنيات المعلومات والاتصالات"؛ و"مزيد من تدعيم الحالة السيبرانية والوعي بالوسائط الحديثة المتاحة على الإنترنت"؛ و"تصميم وسائل مفيدة تتمتع بالجودة لتفعيل الاستفادة من الإنترنت"؛ و"تمكين التطوير المهني وإقامة مجموعات للتعلم"؛ و"ابتكار وتطوير ممارسات حسنة لتقنيات التعليم"؛ و"تعزيز البنية الأساسية نحو تدعيم التعلم من أي مكان وفي كل زمان". وهكذا نجد أمامنا مسيرة قائمة تستهدف "إعداد الثروة البشرية، والاستجابة لمتطلبات العالم السيبراني". ولا شك أن هذه المسيرة تستحق النظر، وتدعو إلى البحث في مسألة الاستفادة منها، وربما من غيرها أيضا، في تعزيز مسيرتنا نحو المستقبل، وإعداد الثروة البشرية التي تتمتع بالجاهزية اللازمة لمواجهة تحدياته.
إن الاستفادة من تجارب الآخرين أمر حميد، فليس للحضارة الإنسانية موقع جغرافي ثابت لكل الأزمنة، وليس لأي أمة تفوق دائم على جميع الأمم. أمم متعددة، بينها أمتنا، أسهمت عبر التاريخ في معارف اليوم. وإذا كانت أمم الغرب هي التي قادت معطيات حضارة هذا العصر، فإن أمما أخرى من الشرق باتت تقترب منها وتشاركها، بل تنافسها على هذه القيادة، بعد أن أخذت منها، ثم أبدعت بعد ذلك بذاتها. ولعل لنا في عالم المستقبل دورا رائدا نتطلع إليه.

إنشرها