Author

«النمو» للأرقام و«التنمية» للإنسان

|
كاتب ومستشار اقتصادي
من عيوب الناتج المحلي الإجمالي، التي يدرسها طلاب الاقتصاد في سنتهم الأولى، أنه لا يقيس مستوى المعيشة Well-being أو معايير الحياة Living standards للمواطنين، وبالمثل كل الأرقام الكلية، فرغم أهميتها إلا أن دلالتها لا تتجاوز الرقم الكلي، ونموها لا يعبر عن شيء آخر سوى نسبة الاختلاف بالسلب أو الإيجاب في الرقم الكلي المراد قياسه. وعلى سبيل المثال، لو زاد عدد المستشفيات 10 في المائة، لقلنا إن نموا جيدا مقداره هذا الرقم تحقق في القطاع الطبي، لكن لقياس أثره في الإنسان نحن في حاجة إلى مقاييس التنمية، وليس النمو؛ لننسب هذه الأرقام ونعرف أثرها في الإنسان، فنبدأ بحساب عدد الأطباء لكل ألف مريض، وأثر الخدمة الصحية في زيادة العمر المتوقع للإنسان، وأثرها كذلك في تقليل نسبة وفيات المواليد، وهلم جرّا. وكذلك الوضع في الإسكان، فلو زاد عدد المساكن، لقلنا إنه نمو جيد، لكن التنمية الاجتماعية تذهب إلى التفاصيل، لتبحث في توافر الهواء الصحي للمسكن، وتوافر الخدمات الأساسية لساكنيه، وكثافة المساكن في الكيلو متر المربع، وغيرها من التفاصيل؛ حيث لا يكفي رقم الزيادة في المساكن لمعرفة أي تفاصيل إضافية تتماس مع حياة قاطني هذه المساكن. ولو طبقنا الشيء نفسه على نمو الناتج المحلي، أو زيادة حجم الإنفاق في الموازنة، أو غيرها من الأرقام الكلية، لما خرجنا بأكثر من نسبة النمو ومعرفة اتجاهها، أما انعكاس وتأثير هذه الأرقام في حياة الإنسان ورفاهيته، فنحتاج إلى قياس معايير التنمية، وأهمها معرفة الزيادة الحقيقية في الدخول، وتقليص معدلات الفقر، وإعادة التوزيع لمصلحة الطبقات الأقل دخلا، وغيرها من مقاييس التنمية الاقتصادية المتعارف عليها. وخلاصة هذا الجزء، أن مصطلحي النمو والتنمية يتداخلان بشكل يصعب معه فصلهما، حتى على يد الدكتور عبدالله الربيعة وفريقه في فصل التوائم السيامية، وكثيرا ما يتم استخدام أحد المصطلحين للحديث عن الآخر، إلا أن الفارق غير الواضح بينهما، أن النمو يتعلق بالأرقام الكلية، فيما التنمية تتعلق بانعكاس الأرقام الكلية على تفاصيل حياة الإنسان، وبمعنى آخر فإن النمو يقتصر على "الإجمال"، فيما تذهب التنمية إلى "التفاصيل". وبمناسبة صدور الموازنة التوسعية، وزيادة نمو الناتج المحلي، فأرى ضرورة تفعيل برنامج "جودة الحياة" بكل تفاصيله وأجزائه، ودعمه على أعلى مستوى، ففيه كثير من تفاصيل ومعايير التنمية الشاملة التي يحتاج إليها المواطن اليوم؛ لتحسين تفاصيل معيشته وحياته، وهذه هي النقطة الأولى التي أردت الحديث عنها اليوم. أما النقطة الثانية فهي أن العالم منذ عدة سنوات تجاوز استخدام مصطلح التنمية Development، وبدأ استخدام مصطلح التنمية المستدامة Sustainable development، والسبب أن الإنسان في سعيه إلى التنمية خلال العقود الماضية دمر المكان، وخرب البيئة، وأثر سلبا في المناخ، وتسبب في تلوث الهواء، وأهدر - في سبيل تحقيق التنمية - موارد اقتصادية دون مبرر أو منطق. ولذا انتقلت المنظمات العالمية إلى ضرورة ربط التنمية بالاستدامة، والتنمية المستدامة تعرف بأنها "التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحالي دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها" (WCED, 1987). وتقوم التنمية المستدامة على مثلث تتناغم أبعاده الثلاثة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وتتضمن هذه الأبعاد تحقيق التنمية، وتمكين الإنسان، والحفاظ على البيئة. في المملكة، وفي ظل رؤية تشمل الأبعاد الثلاثة، وبصفة المملكة موقعة وملتزمة بأهداف الأمم المتحدة الـ 17 للتنمية المستدامة كعضو في المنظمة، فيجب أن يكون الحديث اليوم - ويتبعه الفعل - عندنا ليس فقط عن التنمية، إنما عن التنمية المستدامة، وهو ما نحتاج إليه فعلا في تعاملنا مع البيئة والحياة الفطرية والأشجار والأودية والبيئة كلها، فقد تسلم جيلنا من الآباء والأجداد بيئة نظيفة طاهرة، ويجب ألا تضيع حقوق الأجيال القادمة فيها؛ بسبب التدمير والتخريب، الذي يقوم به بعض أبناء هذا الجيل في أسوأ استخدام سلبي للتقنية الحديثة. والخلاصة أن ارتفاع نسبة الناتج المحلي شيء جيد، وارتفاع الإنفاق الاستثماري في الموازنة المعلنة شيء ممتاز، إلا أن هذا نمو، ولكي يصبح تنمية فلا بد من انعكاسه على تفاصيل حياة المواطن ومعيشته ورفاهيته، وهو ما يحتاج معه إلى تفعيل برنامج "جودة الحياة" بأسرع وقت، ومتابعة تنفيذه بأعلى كفاءة وجدية، والأهم أيضا - وفي سعينا إلى التنمية - أن نربطه قولا وفعلا بمصطلح الاستدامة، فالأجيال القادمة لها حق تجب المحافظة عليه، ولعل أقل ما يجب عمله اليوم هو وقف تخريب البيئة وتلويث المناخ، ووضع قوانين تحد من استخدام البلاستيك، ومحاسبة من يعتدي على الحياة الفطرية بلا سبب إلا ليظفر بصورة يضعها بكل بلاهة في وسائل التواصل الاجتماعي.
إنشرها