Author

دليل المسؤولية في العمل .. والشراكة في الابتكار

|

طرحنا في مقال سابق موضوع "المسؤولية في العمل"، وبينا أن متطلبات هذه المسؤولية لا تقتصر على الجانب التخصصي للوظيفة، وتوافق هذا الجانب مع تخصص مؤهلات صاحبها، بل تشمل مختلف جوانب تصرفات الإنسان، والأسس الأخلاقية التي يستند إليها في سلوكه. وناقشنا، في هذا الإطار، "القيم" التي اعتمدتها منظمة العمل الدولية ILO عام 2009 في لائحتها الخاصة "بمبادئ أداء العاملين" في المنظمة. وذكرنا في المقال أيضا، أن وزارة العمل والتنمية الاجتماعية في المملكة أصدرت عام 2017 "دليلا استرشاديا لقواعد أخلاقيات العمل". ويهدف هذا الدليل إلى مساعدة المؤسسات على إعداد وصياغة اللوائح والسياسات المرتبطة بهذا الموضوع. ويسعى هذا المقال إلى إلقاء الضوء على معطيات الدليل الرئيسة، وبيان أهميتها، إضافة إلى تقديم بعض المرئيات بشأنها، خصوصا في قضية الابتكار. والغاية المأمولة من ذلك هي محاولة تفعيل الاهتمام بروح "المسؤولية" في أداء الأعمال، بما يؤدي إلى تدعيم التنمية وتعزيز استدامتها.
ينطلق "الدليل الاسترشادي" من أخلاقيات الدين الإسلامي الحنيف كمرجعية لتوصياته وإرشاداته. ويقوم بطرح معطياته من خلال ثلاثة محاور رئيسة، تشمل: "الآداب والسلوكيات العامة"؛ و"بيئة العمل"، بما في ذلك واجبات أطراف العمل؛ إضافة إلى "الأخلاقيات في العلاقات العمالية" بين هذه الأطراف.
إذا بدأنا بمحور "الآداب والسلوكيات العامة"، نجد فيه ثلاث قضايا رئيسة ينبغي الاهتمام بمراعاتها. تركز الأولى على "مبدأ العدل والمساواة" ونبذ التمييز بأشكاله كافة. وتقضي الثانية بالاهتمام "بالمظهر اللائق" والهندام الحسن والحجاب الشرعي للمرأة والنظافة العامة. أما القضية الثالثة، فتؤكد "رفض الرشوة" وعدم قبول الهدايا المشبوهة ونبذ الفساد، ومراعاة الأنظمة القاضية بعدم السماح بجمع التبرعات، فيما عدا الجهات التي تملك ترخيصا رسميا بذلك.
نأتي إلى المحور الثاني للدليل، وهو محور "بيئة العمل" وواجبات أطراف العمل. في هذا المحور، هناك "واجبات عامة" على الجميع مراعاتها؛ وواجبات تخص "العاملين"؛ وأخرى تخص "أصحاب الأعمال". تشمل "الواجبات العامة": الاحترام المتبادل؛ والتعامل بلباقة وموضوعية؛ واحترام ثقافات الآخرين من العاملين القادمين من الخارج؛ وعدم التمييز؛ والروح الإيجابية في العمل، بما يشمل التعاون والارتقاء بالأداء. وتتضمن واجبات "أصحاب الأعمال": تأمين عمل آمن في بيئة صحية؛ والعدل والمساواة بين الجميع؛ وتشجيع المبادرة والابتكار؛ وبناء بيئة ودية للتعامل؛ وتوفير مكان مناسب للعاملات. أما واجبات "العاملين" فتقضي بالتالي: احترام سياسات ولوائح العمل؛ والمحافظة على العهَد والممتلكات والمعلومات؛ وعدم إساءة استخدامها والإضرار بها؛ وعدم استخدامها لأغراض شخصية؛ واستخدام الأنظمة المتاحة لمصلحة العمل فقط؛ إضافة إلى الالتزام بمتطلبات حماية أمن المعلومات.
ونصل إلى المحور الثالث للدليل، وهو محور "الأخلاقيات في العلاقات العمالية". ويرتبط هذا المحور بأخلاقيات كل من "أصحاب الأعمال" و"العاملين"، وبالأخلاقيات والمبادئ "المشتركة" بينهما. إذا بدأنا بالجانب "المشترك"، نجد صفات: الشفافية والصراحة؛ والاستماع والتواصل؛ والتعاون وروح الفريق؛ وتجنب تضارب المصالح؛ والإبلاغ عن التجاوزات؛ ومراعاة أخلاقيات التعامل مع المرأة؛ وبناء علاقات مهنية موضوعية لا تتأثر بأي خلافات محتملة في مجالات أخرى.
وننتقل إلى أخلاقيات "أصحاب الأعمال"، في تعاملهم مع الآخرين، وهي مرتبطة بواجباتهم سابقة الذكر، وتشمل: تقييما عادلا للعاملين؛ والحرص على تدريبهم؛ والحوار معهم؛ وتوفير حق التظلم لهم؛ والتعامل معهم بإنصاف؛ والمحافظة على معلوماتهم الشخصية؛ وتشجيع روح المبادرة والابتكار والتطوير لديهم؛ وتوفير بيئة محفزة تتضمن مكافأة المتميزين؛ وتشجيع تنمية القدرات وتحسين الأداء؛ والمساواة والابتعاد عن التمييز. أما أخلاقيات "العاملين" التي ترتبط أيضا بواجباتهم، فتتضمن: أداء الواجبات بأمانة؛ ومراعاة حقيقة أن أوقات الدوام للعمل فقط؛ والتعاون مع إجراءات التحقيق عند الحاجة؛ والاستجابة لمتطلبات العمل خارج الدوام؛ وحفظ الأسرار الفنية منها والتجارية؛ إضافة إلى المحافظة على العهَد والممتلكات، كما بينا في الواجبات.
على أساس ما سبق، يمكن القول إن الدليل الاسترشادي تضمن مراعاة قيم "النزاهة، والمهنية، واحترام التعددية، والعمل كفريق، والحماية والأمن، وأخلاقيات النشاطات الخارجية" التي وردت في لائحة منظمة العمل الدولية. كما أنه أعطى الخطوط العريضة اللازمة للمؤسسات كي تضع لوائح المسؤولية والالتزام الأخلاقي الخاصة بها. ولعلنا في هذا المجال نقدم ملاحظتين رئيستين.
تهتم الملاحظة الأولى بما ذكرناه في المقال السابق بشأن الضوابط "الذاتية والتشريعية والتقنية"، التي يمكن تطبيقها من أجل التزام الجميع "بالآداب، والواجبات، وأخلاقيات التعاملات". والتفضيل هنا - كما أوردنا في مقالات سابقة - هو "للضوابط الذاتية" النابعة من شعور المسؤولية لدى الجميع من أصحاب عمل وعاملين في مختلف المستويات. فكلما فُعِّلت الضوابط الذاتية، انخفضت الحاجة إلى الضوابط الأخرى. ولعل بيئة العمل المناسبة لذلك هي تلك التي يشعر فيها العاملون بأنهم أصحاب العمل، ويشعر فيها أصحاب العمل بأن العاملين زملاء لهم.
ونأتي إلى الملاحظة الثانية، وترتبط هذه الملاحظة بموضوع واعد ورد في الدليل الاسترشادي. ويطلب هذا الموضوع من صاحب العمل القيام "بتشجيع روح المبادرة والابتكار، وتوفير فرص للعاملين للمشاركة في تقديم الاقتراحات المتعلقة بتحسين الخدمات، وتطوير العمل في جو من الثقة المتبادلة والفهم المشترك". يتمتع هذا الموضوع بفائدة رئيسة مهمة، تتمثل في تقديم أفكار جديدة، وربما وسائل ومعطيات مبتكرة وغير مسبوقة، تؤدي إلى تطوير العمل والارتقاء بالمؤسسة. كما أن له فائدة أخرى تتعلق ببناء بيئة داعمة للتواصل وإبداء الرأي، تسهم في حماس العاملين للعمل وزيادة إنتاجيتهم.
إن النظر إلى الإبداع والابتكار والمشاركة في الرأي كجزء من المسؤولية المطلوبة في العمل في المؤسسات - مسألة مستقبلية مهمة، خصوصا في هذا العصر، عصر التنافس المعرفي، وتفعيل الاقتصاد المبني على المعرفة. ولعله من المناسب لكل مؤسسة، سواء أكانت حكومية أم خاصة، أن تضع لائحة خاصة بها "للمسؤولية والالتزام الأخلاقي في العمل"، تتناسب مع طبيعة عملها، وتستلهم فيها ما ورد في الدليل الاسترشادي. والأمل أن يتم التركيز، في مثل هذه اللائحة، على الإبداع والابتكار، وربما إقامة حاضنة للأفكار الجديدة، تقوم على رعايتها والارتقاء بها، وصولا إلى تطبيقها والاستفادة منها، بما يسهم في تدعيم التنمية وتعزيز استدامتها.

إنشرها