Author

ميزانية 2019 .. تحديات من نوع جديد

|

التحدي الأهم
مصادفة فريدة حدثت بالأمس، أن تعلن السعودية ميزانية تاريخية بإنفاق يتجاوز 1.1 تريليون في يوم هبطت فيه أسعار النفط هبوطا حادا. لكن لن يتعطل شيء، فالحصيلة من الإيرادات لم تعد نفطية فقط. هذا أمر يعني الكثير، فالتحدي الأهم أمام الدول هو الوصول إلى استقرار مالي يحقق توازنا بين الحصافة في توظيف موارد الميزانية المحدودة، وبين حفز النمو الاقتصادي، ومواصلة التنمية الاجتماعية. أما استدامة ذلك التوازن فهي الوصفة "السحرية" لتحقيق فوائض مالية، واقتصاد حيوي، ومجتمع متكافل ومكتف.
لكن كيف، ونحن لم نعتد القيام بأي من هذه المهام دون مؤازرة النفط؟ حاليا، تمثل الإيرادات غير النفطية نحو 32 في المائة من إجمالي الإيرادات، أي أن الطريق لا يزال طويلا وقد تعتريه وعورة. لكن الرحلة الطويلة بدأت لجعل إيرادات النفط ملجأ لا مرتكزا.

الحالة السعودية
وما كان يجعل ذلك التحدي أكثر عنادا في الحالة السعودية، هو اعتماد الخزانة العامة على إيرادات النفط، وعدم وضعها وتتبعها لقنوات لتنمية موارد أخرى لتنويع إيرادات الخزانة. ولا بد من القول إن ذلك لم يكن ديدن الدولة قبل حقبة تصاعد الإيرادات النفطية، فحتى بداية الخمسينيات الميلادية كانت إيرادات الحج هي المصدر الأول لإيرادات الخزانة، وبالتدريج أخذت الإيرادات النفطية تمول الأنشطة كافة من إدارة عامة وصحة وتعليم وخدمات تنموية. ومع ذلك الشمول في الإنفاق العام برز أمران: (1) أن الجميع يستفيد من الدعم (المستحق وغير المستحق)، (2) أن تغطية المصاريف الجارية أصبحت لها الحصة الأكبر من الإنفاق العام، بل ثمة سنوات تراجعت فيها الإيرادات النفطية ما اضطر الحكومة إلى الاقتراض إلى تغطية النفقات الجارية، وتقليص النفقات التشغيلية، فيما كاد الإنفاق الرأسمالي أن يتلاشى. وقد انعكس ذلك في عدم القدرة على تنفيذ عناصر مهم من المبادرات والمشاريع التي وردت في سلسلة من الخطط الخمسية، ما أثر سلبا على التنمية الاجتماعية والسعة الاقتصادية، فتراجع عديد من المؤشرات كقصور خدمات الصرف الصحي، وتزايد عدد المدارس المستأجرة، وتكدس طلبات التنمية العقارية على سبيل المثال لا الحصر، فيما الاستنزاف مستمر لتغطية الكم المتصاعد للنفقات الجارية.

برنامج إعادة الهيكلة
مما يعني ضرورة إعادة الهيكلة لوضع حد لقضيتين: (1) حالة التماهي بين التدفقات النقدية لإيرادات النفط وبين قدرة الخزانة على الإنفاق، (2) الالتزام بنموذج "تعاظم الإنفاق الجاري نتيجة لشمولية وعمومية الدعم". وإعادة الهيكلة المطلوبة ينبغي أن تكون متعددة الجوانب: مالية واقتصادية في آن معا. وهذا ما أتت به "الرؤية السعودية 2030"، وبرامج تحقيقها. ومن جانب آخر، فقد سبق الإعلان عن "الرؤية" الإعلان عن برنامج طموح لإعادة الهيكلة أعلن عنه بالتزامن مع إعلان ميزانية عام 2016، بينت ملامحه تفصيلا من حيث: 1.المزيد من التخطيط المالي، 2.مراجعة وتطوير إجراءات إعداد الميزانية،3.رفع كفاءة الإنفاق الرأسمالي،4.رفع كفاءة الإنفاق التشغيلي للدولة، 5.العمل على الحد من تنامي المصروفات الجارية، 6.الانتهاء من تحديث نظام المشتريات الحكومية، 7.تحسين منهج وآليات إدارة الأصول، 8.تطوير أهداف وأدوات السياسة المالية، 9.تحقيق إصلاحات هيكلية واسعة في الاقتصاد الوطني وتقليل اعتماده على النفط، 10.إعطاء الأولوية للاستثمار في المشاريع والبرامج التنموية التي تخدم المواطن بشكل مباشر كقطاعات التعليم والصحة ووالخدمات الأمنية والاجتماعية والبلدية والمياه والصرف الصحي والكهرباء والطرق والتعاملات الإلكترونية ودعم البحث العلمي وكل ما يكفل تحسين نمط الحياة اليومية للمواطن، 11.مراجعة وتقييم الدعم الحكومي ويشمل ذلك تعديل منظومة دعم المنتجات البترولية والمياه والكهرباء وإعادة تسعيرها يراعى فيه التدرج، 12.تطوير وحدة إدارة الدين في وزارة المالية، 13.تحسين مستوى التواصل والتنسيق بين الجهات والأطراف كافة المعنية بتنفيذ الإصلاحات المالية.

3 سنوات
وبعد مضي ثلاث سنوات على إمضاء إعادة الهيكلة، التي أشارت إليها الفقرة السابقة، نجد أنها أحدثت فارقا جوهريا، فارقا يقوم على أننا اتخذنا خيارات، واخترنا – بوعي وعن سابق إصرار - توجهات للمستقبل. وتخلينا عن الاعتماد على "قوة الدفع الذاتي المرتكزة إلى حصيلة إيرادات النفط". لم يقل أحد إن تلك الجهود ستكون مريحة، فقد أخرجتنا من "مناطق الراحة" إلى "مناطق المواجهة" مع المستقبل، حفاظا على مصالحنا وتعزيزا لمكانتنا، ولتوسع اقتصادنا، ولرفاهية السعوديين حاليا ولأجيال عديدة قادمة.
نعم، أخرجتنا تلك الحزمة من الإصلاحات من "مناطق الراحة والدعة والاعتياد"، فقد كان ضروريا، إذ لم يكن خيارا الاستمرار في تقديم الدعم دون تمييز بين مستحق وآخر، ولم يكن خيارا الاستمرار في استقدام ملايين من العمالة الوافدة منخفضة الإنتاجية، فما الذي نتوقعه من اقتصاد يقوم على ريع، ويسعى إلى تنويع اقتصاده غير النفطي من خلال أساليب غير كفوءة! كيف يستطيع أن ينافس وإنتاجية العامل شديدة الانخفاض؟ وما الذي كنا نتوقعه للمستقبل الاقتصادي لقطاعات اقتصادية غير نفطية ترتكز في إنتاجيتها على الدعم والحماية والعمالة الوافدة الرخيصة؟
وهكذا، لم يكن خيارا عدم الزحزحة مما كنا فيه، لكن إعادة الهيكلة بمفردها، وعلى الرغم من ضرورتها، ما كانت لتكون كافية، بل كان لا بد من محركات للإنتاج. وهذا من ضمن ما جلبته "رؤية المملكة 2030" عبر برامجها لتحقيق الرؤية، لتنويع الاقتصاد بكل قطاعاته من خلال تحسين أداء ما هو قائم سواء أكان صناعة أو زراعة أو خدمات، أو استحضار القطاعات الضامرة أو الغائبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي مثل الترفيه والسياحة بل حتى التجارة، إذ إن جل القطاعات الاقتصادية تعاني تدني الإنتاجية نتيجة لعدم الكفاءة في استخدام المدخلات من جهة، وضياع الفرص الوظيفية والاستثمارية نتيجة للتستر والتوظيف الوهمي، كما أن البحبوحة في الاعتماد على العمالة الوافدة بتكلفة منخفضة أدى إلى جعل اقتصادنا الوطني جاذبا للمنشآت منخفضة الإنتاجية المعتمدة على كثافة اليد العاملة، وهذا أمر لا يتسق وغير قابل للاستدامة لأسباب هيكلية أهمها أننا بلد يعاني شح اليد العاملة، ووفرة في رأس المال ما يعني بداهة الاتجاه للأنشطة كثيفة رأس المال وقليلة الحاجة إلى العمالة. كيف يمكن أن نغير هذا الوضع؟! أم أنه قدرنا الذي علينا ملازمته للأبد؟! وينبغي عدم الاستهانة بسطوة "مناطق الراحة والدعة" على توجهات البعض منا، وكأن ليس بالإمكان السعي إلى التغيير لإصلاح الخلل الهيكلي في النموذج الاقتصادي، فكما أن لنا مزايا نسبية لدينا مكامن شح، هذا هو واقع الأشياء، فكما أن علينا استغلال موقعنا الجغرافي المميز، كذلك علينا إدراك أن علينا تجاوز ندرة العمالة بالاتجاه للأتمتة كلما كان ذلك ممكنا، بل يمكن القول إن هذا هو الشرط السابق لخروجنا من نموذج اقتصادي منخفض الإنتاجية إلى نموذج اقتصادي عالي الإنتاجية، وهذا "الخروج" شرط لازم لتحسين قدرتنا على المنافسة، والمنافسة شرط ليس فقط لغزو أسواق خارجية عبر الصادرات بل كذلك للدفاع عن سوقنا المحلية. فإن لم نتمكن من ذلك، فستعصف بأنشطتنا الاقتصادية الواردات الأقل سعرا والأعلى جودة.

كسر الاحتكار
ما فائدة تنمية الإيرادات غير النفطية؟ فوائد عدة، منها كسر هيمنة العوائد النفطية على مجريات الخزانة العامة، والاستفادة من الأنشطة الاقتصادية لتعزيز إيرادات الخزانة، وإعادة هيكلة آليات توزيع الثروة بما في ذلك العوائد النفطية على المجتمع بما يجرد المنظومة الاجتماعية - الاقتصادية من تأثيرات الريع، وينقلها إلى سياق الإنتاج.
لكل ذلك تكتسب الإيرادات غير النفطية أهمية، ويعني الكثير أن تنمو خلال سنوات قليلة (2014 - 2018) بمعدل 20 في المائة من 12 في المائة إلى 32 في المائة من إجمالي الإيرادات. لكن يبقى سؤال قائما، ولطالما تردد ولعل ترديده سيستمر. للإجابة عن السؤال لا بد من إدراك أن المعركة ليست ضد النفط أو زهدا في ريعه، بل هي من أجل تحقيق "الاستقرار المالي"، الذي بدا أنه لن يتحقق ما دام النفط هو "المايسترو"؛ فحقيقة الأمر التي استمرت لعقود أن النفط يكتم تنميتنا ونمونا ثم يعاود لإطلاقهما بإشارة من إيراداته. هذا التأرجح المتعدي لإيرادات النفط لا ينسجم مع تحقيق اقتصادنا للقيمة الأهم ألا وهي "الاستقرار"! كان منا من يراهن أن بوسعنا مراكمة الاحتياطيات النقدية لتعمل كـ"ماص صدمات". حسن، ولكن ماذا إن طالت فترة تراجع إيرادات النفط، فتآكلت الاحتياطيات برمتها، ثم اقترضنا حتى "الثمالة" إلى أن ساوى الدين العام قيمة الناتج المحلي الإجمالي؟! هذه ليست افتراضات خيالية، بل هذا الكابوس عايشناه في وطننا هذا على مدى عقدين من الزمن، بدأ من منتصف الثمانينيات. فهل نعاود الكرة الآن، أي نستهلك الاحتياطيات ونستدين، وننتظر أن ترتفع أسعار النفط لكي نسدد الدين؟
على مدى خمسة عقود بقي الهدف كسر هيمنة النفط على الخزانة العامة وعلى الاقتصاد المحلي، فهذا ما وثقته الخطة الخمسية الأولى، ولم نحققه حتى الآن. لماذا؟ لأننا أردنا أن يخلصنا النفط من النفط! وهذا ما لن يفعله النفط أبدا. إذا لا بد من دخول "مواجهة" مع النفط، وهي مواجهة لن تكون دون تضحيات منا جميعا، ولا أستثني أحدا. والمبرر لتقديم التضحيات من كل منا –أشخاص طبيعيين واعتباريين - هو تحقيق ما كنا نفتقده دائما وهو تذبذب أدائنا الاقتصادي نتيجة لتأرجح إيرادات الخزانة العامة، المشبعة بنكهة النفط. وما يدل على ذلك أن على مدى الفترة 1970 - 2015 حقق الاقتصاد السعودي معدل نمو متوسطه 5 في المائة سنويا، لكنه يتأرجح صعودا وهبوطا بنسق واضح. كيف ستكون المواجهة؟.
القصة التي نعاني تبعاتها: تراجعت أسعار النفط ونحن في مزاج إنفاق عال، وكان علينا التعامل مع ذلك. إذ كانت هيكلة الإنفاق العام جلها إنفاق جار، حيث قفز الإنفاق الجاري من 68 في المائة في عام 2013 إلى 80 في المائة في عام 2016. وقد أوقعنا هذا في ضرورة خفض الإنفاق، ولكن كيف؟! ونحن أمام إيرادات نفطية (329 مليارا) أقل من أن تغطي بند رواتب موظفي الحكومة وما في حكمها (513 مليارا). نظرة الحكومة بينتها بإسهاب في "الرؤية السعودية 2030"، بأن الخزانة ستتحرر من اعتمادها على الإيرادات النفطية، إذ تستهدف "الرؤية" وصول الإيرادات غير النفطية إلى تريليون ريال. لكن كيف؟!
تقوم الفكرة على إطلاق مجموعة من البرامج التي تطلق مكامن قوة الاقتصاد السعودي. فما مكامن القوة تلك؟ تحديدا: "أرامكو السعودية"، السوق المالية السعودية، استثمار الأموال العامة داخليا وخارجيا، الخصخصة، التحول اللوجستي، التعدين، الشراكات الاستراتيجية (مع عشر دول وهي دول مجلس التعاون ومصر وأمريكا والصين واليابان وجنوب إفريقيا والهند وبريطانيا وألمانيا)، وبرنامج للتحول الرقمي عبر إنشاء شركة للتحول الرقمي مع شركة عالمية رئيسة لتشمل تحويل 20 قطاعا، وهذا سيدخل اقتصادنا في "إنترنت الأشياء" ضمن أمور أخرى. إذا فالفكرة المحورية تحقيق الاستقرار المالي للخزانة بنهاية عام 2030، عندما لا يكون إيراد النفط أساسيا، وبتحقق ذلك نتحرر من "العروض غير الشيقة لبهلوانيات النفط" عندما تتلاطم أسعاره هبوطا وصعودا وهبوطا في وقع مؤلم وكأنه مخاض ليس له نهاية أو قرار!

أهداف متعاضدة
لنلاحظ أمرا أن ميزانية 2019 أعلنت في يوم شهد تراجعا لأسعار النفط، لكن لم يعد القلق كما كان سابقا، وهذا فارق أحدثته إعادة الهيكلة المالية، التي أدت إلى استقرار إيرادات الخزانة، حيث لا يتأثر مستوى الإنفاق المطلوب في حال تراجع أسعار النفط، ولا يتضخم الإنفاق في حال ارتفاع أسعاره، وهنا تأتي جزئية الدين للموازنة –ضمن حدود - بين قصور الإيرادات واحتياجات التنمية والنمو. وقد عمل بهذه الهيكلية منذ ميزانية عام 2018، بأن كانت هناك إيرادات نفطية وإيرادات غير نفطية مصدرها وإنفاق ويمول العجز، دون إرباك للخطط لاستثمارات الحكومة. وهكذا، نجد أن ميزانية عام 2019 توسعية ليس بسبب التفاؤل بأسعار النفط، بل بسبب احتياجات دعم النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية حتى لا يكون تحقيق "الرؤية" قائما على شرط توافر الإيرادات النفطية.

إنشرها