FINANCIAL TIMES

نداء «السترات الصفراء»: أنا أحتج إذن أنا أستحق المراعاة

نداء «السترات الصفراء»: أنا أحتج إذن أنا أستحق المراعاة

نداء «السترات الصفراء»: أنا أحتج إذن أنا أستحق المراعاة

إلى جانب دوار في ضواحي مدينة تروا، التي تقع على بُعد 150 كيلومترا جنوب شرقي العاصمة الفرنسية باريس، تستطلع صوفي الخيمة الرطبة التي أمضت فيها معظم الأسبوعين الماضيين.
صوفي التي ترتدي سترة صفراء تبدو متألقة بتميّزها كواحدة من المحتجين الذين يُطلق عليهم حركة السترات الصفراء ضد الرئيس إيمانويل ماكرون، تُشير إلى طاولة حيث جلب فاعلو الخير الفاكهة والخبز بل حتى سمك السلمون المُدخّن، من أجل المحتجين.
وتقول: "لدينا ما نأكله هنا أكثر مما لدينا في المنزل"، وصوتها بالكاد مسموع بسبب ضجيج السيارات والشاحنات المارة، التي تدق أبواقها للإشارة على التضامن.
النادلة البالغة من العمر 25 عاماً وغيرها من آلاف الرجال والنساء الفرنسيين، يهددون بتركيع حكومة ماكرون. ما بدأ بالكاد قبل شهرين على شكل حملة على الإنترنت ضد ارتفاع تكاليف الوقود، تحوّل إلى حركة اجتماعية على مستوى البلاد ضد ارتفاع الضرائب، وانخفاض مستويات المعيشة، وضد نخبة سياسية تخدم مصالحها الذاتية، ورئيس يُعتبر متعجرفاً وبعيدا عن الناس.
ما يُثير القلق بالنسبة لماكرون هو أن استطلاعات أجرتها وكالتا إيلاب وهاريس إنترآكتيف، تُشير إلى أن سبعة من أصل كل عشرة ناخبين فرنسيين يؤيدون الاحتجاجات.
بعد أسبوعين من حواجز الطريق والحصار التي أوقفت أجزاء من البلاد، تحوّلت عطلة نهاية أسبوع ثالثة على التوالي من الاحتجاجات في باريس في نهاية الأسبوع الماضي، إلى أسوأ أعمال شغب في العاصمة منذ 50 عاماً.
صُدمت البلاد من صور الرجال الذين يرتدون سترات ويقاتلون شرطة مكافحة الشغب، حول قوس النصر الملوث بالكتابات والرسوم.
يقول زكي العايدي، الأستاذ في جامعة العلوم السياسية: "إن الوضع يمثل حالة يُرثى لها، باستثناء أنه لا يوجد بديل سياسي. حركة السترات الصفراء تطالب بمزيد من الدولة وضرائب أقل. من المستحيل التوفيق بين الأمرين".
تحت ضغط شديد، قررت الحكومة يوم الثلاثاء الماضي تعليق الزيادات على ضريبة البنزين والديزل، التي كان من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ الشهر المقبل، لمدة ستة أشهر لاحقة.
مع المخاوف من مزيد من الاحتجاجات العنيفة في العاصمة يوم السبت، قدمت الحكومة مزيدا من التنازلات؛ حيث ألغت الزيادات الضريبية.
هذا التنازل الصغير في السياسة رُفض من قِبل كثير من أتباع حركة السترات الصفراء والأحزاب المعارضة في فرنسا، باعتباره أقل من المطلوب، وأنه جاء بعد فوات الأوان. النظرة إلى الوضع هي أنه لا يزال انقلابا تاما وصريحاً من قِبل رئيس يعتبر نفسه الزعيم الذي سيبقى في مساره مهما كان الثمن، على عكس أسلافه الذين فشلوا في تحديث فرنسا، في مواجهة المصالح المكتسبة الراسخة وتقاليد المقاومة السياسية ذات الطابع الاجتماعي الثوري.
اعترف إدوار فيليب، رئيس الوزراء، بأنها كانت "لحظة محورية" بالنسبة للحكومة. هذا يطرح السؤال حول ما إذا كان ماكرون، الذي كانت شعبيته قد انخفضت إلى 26 في المائة، حتى قبل أحداث العنف في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، لديه رأس المال السياسي والعزم لمعالجة الإصلاحات الكبيرة الأخرى، مثل المعاشات التقاعدية والتأمين ضد البطالة وتبسيط الدولة.
هل انتهت طموحات ماكرون الإصلاحية؟ يقول جيل مويك، خبير الاقتصاد في بنك أمريكا ميريل لينش، الذي كان مسؤولا سابقاً في البنك المركزي الفرنسي: "لا أعتقد ذلك، على أنه ستكون هناك وقفة. يجب أن تكون هناك وقفة".
بدأت حركة السترات الصفراء على شكل عريضة على الإنترنت ضد زيادة الضرائب على الوقود في الصيف، قامت بتنسيقها بائعة مواد تجميل تُدعى بريسيليا لودوسكي من مقاطعة سين أيه مارن، شرقي العاصمة.
ثم تحالفت مع سائق شاحنة من المنطقة نفسها أراد تنظيم يوم للمظاهرات. تضخمت العريضة إلى مليون توقيع، وفي السابع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، قطع نحو 300 ألف شخص تقاطعات الطرق، وأكشاك رسوم العبور، ومستودعات الوقود في كل أنحاء فرنسا.
وفي حين أن عدد المتظاهرين تقلّص منذ ذلك الحين – حيث لا يوجد هيكل رسمي أو قادة معروفون للحراك – إلا أن مطالب وطموحات الحركة واصلت التضخم، حتى بلغت 40 مطلباً.
استغل المتظاهرون المظالم طويلة الأجل حول انخفاض الأجور، وانخفاض مستويات المعيشة، واختفاء وظائف التصنيع، وتراجع الخدمات العامة والمرافق المدنية في المناطق الريفية.
عندما لا تكون تعمل في الدوّار في منطقة تروا، فإن صوفي، التي رفضت إعطاء اسم عائلتها، تعمل نادلة تأخذ إلى المنزل 1200 يورو شهرياً، وهو مكافأة عند الحد الأدنى للأجور.
بمجرد أن تدفع 500 يورو للإيجار، و180 يورو للتدفئة، و80 يورو للهاتف والإنترنت، وتشتري القليل من الطعام، لا يبقى معها ما يذكر للمعيشة، ناهيك عن الادخار. وتقول: "عندما يصل يوم العطلة، لا أملك بالضرورة المال للقيام بأشياء أخرى".
على مدى أعوام، عانت الطبقة المتوسطة المضغوطة في فرنسا، حيث إن دخل الفرد أعلى من الحد الأدنى، إلا أنه يقف عند حد لا يخوله الحصول على إعانات الرعاية الاجتماعية الكاملة.
ويظل الدخل أقل من المطلوب، على نحو لا يكفي لتلبية الاحتياجات، كما يقول دانيال بينسبت، البالغ من العمر 75 عاماً. ويعترف بأن لديه معاشاً تقاعدياً جيدا، لكنه يقف مع المحتجين لدعم الأسوأ حالاً منه.
يضيف بينسبت، وهو جزء من مجموعة حركة السترات الصفراء بالقرب من تروا: "كان الأمر يحدث منذ فترة طويلة، لكنه يندلع الآن بقوة؛ لأن ماكرون يعتقد أننا حمقى. إنه يعتبرنا أشخاصا لا قيمة لهم".
حركة السترات الصفراء متنوعة من حيث الأعمار والخلفيات والمهن. البعض ناشط سياساً، ومعظمهم لا علاقة له بالسياسة. وهم يبدون في أقوى أوضاعهم في المناطق الريفية وضواحي البلدات والمدن الإقليمية، حيث تسبب ارتفاع تكلفة الوقود في أذى كبير لسائقي السيارات الفقراء، الذين يعتمدون على سياراتهم للعمل.
وكان كثير منهم قد شعروا بالغضب من إجراءات الحكومة السابقة لخفض الحد الأقصى للسرعة، من 90كم في الساعة إلى 80كم في الساعة على الطرق الثانوية.
تقول أوريلي شاريون، عمدة بلدة بريفيسان-موونز، شرقي البلاد: "حركة السترات الصفراء هي أزمة المناطق الريفية، والمناطق الهامشية في فرنسا"، مردفةً أنها: حركة "السائقين ورجال الإطفاء والموظفين والحرفيين والمعلمين، بل أرباب المعاشات"، الذين تعد السيارة ضرورية لأعمالهم.
وتُضيف: "هؤلاء هم الفرنسيون الذين نسيتهم الحكومات في الأعوام العشرين الأخيرة"، لذلك عندما طلب منهم ماكرون دفع ضريبة إضافية على الوقود، تحول ذلك إلى "القشة التي قصمت ظهر البعير".
بالنسبة لكريستوف جويلي، عالِم الجغرافيا والمؤلف الفرنسي، فإن صعود حركة السترات الصفراء دلالة على الديناميكية نفسها التي تقف خلف الـ"بريكست" في المملكة المتحدة، وانتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة.
يقول جويلي: "الجغرافية هي النقطة المشتركة لحركة السترات الصفراء، والـ"بريكست" وترمب، والموجة الشعبوية".
إن هؤلاء هم الأشخاص الذين يشعرون بأنهم تعرضوا للنسيان بسبب العولمة، وتم نبذهم بسبب النموذج الاقتصادي الجديد، وهم الذين يسعون إلى الحفاظ على "رأسمالهم الاجتماعي والثقافي".
ويُضيف: "الأمر المهم للغاية بخصوص أزمة حركة السترات الصفراء، من الواضح أنه السترات الصفراء نفسها: فهي تقول ’انظر إلي، أنا موجود‘".
وصل ماكرون إلى السلطة في أيار (مايو) من عام 2017 واعداً بتحرير الاقتصاد، وجعل العمل مجزيا، فعمد إلى إصلاح سوق العمل، وسكك حديد تابعة للدولة، كما عزز برامج التدريب المهني والتعليم.
كما ارتفعت الثقة بقطاع الأعمال، والنمو الذي كان متيناً، وحصلت باريس على مشهد مزدهر في التكنولوجيا.
على أنه بالنسبة لكثيرين خارج العاصمة، لم تكُن هناك تحسينات تُذكر. معدل البطالة ثابت بنحو 9 في المائة. وارتفع دخل الأُسر المتاح للتصرف عامي 2017 و2018، وذلك وفقاً للإحصاءات الرسمية، لكن كثيرا من المواطنين لا يشعرون بذلك.
وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية "أوسيد"، فإن فرنسا هي البلد التي فيها أعلى معدل ضرائب في العالم المتقدم؛ حيث تشكل الإيرادات الضريبية 46.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
الرئيس أيضاً ارتكب أخطاء. في ميزانيته الأولى، استبدل ضريبة الثروة بفرض ضريبة على الممتلكات فحسب، معتقداً أن هذا سيُساعد على توجيه المدخرات نحو إنشاء أو توسيع الأعمال. واضطر إلى تأجيل التخفيضات الضريبية للأُسر العادية. عدم شعبية تلك القرارات أحاطت ماكرون، المصرفي السابق في بنك روثشايلد، بسمعة أنه رئيس الأثرياء.
الآن، أحد مطالب المحتجين الرئيسة هو إعادة فرض الضريبة على الثروة، وهو شيء قال الوزراء هذا الأسبوع إنهم على استعداد للنظر فيه، قبل أن يقمعهم ماكرون.
يقول برونو باسي، وهو مزارع متقاعد من منطقة شامبين الشرقية: "نحن صدقنا ماكرون. لقد باعنا حُلماً أنه كان سيُغيّر كل شيء، وهو الآن يخدعنا".
ما أثار المحتجين ليس ما فعله ماكرون فحسب، بل كيف فعله. كثيرون يريدون منه الاستقالة. بالكاد كان الفرنسيون يعرفون رئيسهم عندما انتُخب عام 2017، في مواجهة ضد الزعيمة اليمينية المتطرفة مارين لوبن.
لم يكُن قد شغل منصباً منتخباً من قبل، وكان قد تولى منصب وزير الاقتصاد فترة وجيزة، لا غير. لقد أنشأ حزباً، هو حركة الجمهورية إلى الأمام من الصفر، الذي يتألف في الغالب من مبتدئين سياسيين، ولا يزال ضعيفاً على أرض الواقع.
يقول فادي دحدوح، وهو مستشار لحزب الجمهوريين من يمين الوسط في تروا: "ليس لماكرون قاعدة انتخابية".
كان من المفروض أن تستفيد حركته من طاقات المجتمع المدني لإصلاح البلاد. بيد أنه حين تولى السلطة كان يبدو عليه أنه يدير البلاد من قصر الإليزيه، بمساعدة مجموعة صغيرة من المستشارين. وحين انقلبت الرياح السياسية، انكشف ماكرون على نحو خطِر.
بعض حلفائه يريدون بقوة أن يستعيد رئيسهم روح الانفتاح المذكورة. يقول أوريليان تاشيه، وهو نائب عن حركة الجمهورية إلى الأمام: "نحن بحاجة إلى تغيير تام في الثقافة".
يعتقد بعض المتفائلين أن الاحتجاجات قد تكون فرصة للحزب الحاكم. تقول الحجة إنه إذا كان أصحاب السترات الصفراء قد سئموا تماما هذه الضرائب المرهقة، فهل يمكن أن تكون هذه طريقة لتقديم الحجة لمصلحة تقليص الإنفاق، وإنعاش أجندة الإصلاح من قبل ماكرون؟".
يقول حليف لرئيس الوزراء: "لقد تعثرنا في مشكلة من حيث زيادة الضرائب. من بعض النواحي هذا الأمر مطَمْئن إلى حد كبير. إذا أراد الفرنسيون إجراء تخفيضات ضريبية، فسيكون عليهم أن يقبلوا بإنفاق أقل على القطاع العام: غير أن "كثيرا من المحتجين يريدون زيادة الإنفاق على المنافع والخدمات في المناطق الريفية، وفي الوقت نفسه يريدون خفض الضرائب".
كما يشعر البعض في الحزب الحاكم بالارتياح من حقيقة أن أحزاب المعارضة لم تتمكن حتى الآن من الاستفادة من ذوي السترات الصفراء، التي لا تقع مطالبهم المتنوعة ضمن أنماط أيديولوجية. لقد أبقى المتظاهرون على مسافة بينهم وبين أحزاب المعارضة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES