FINANCIAL TIMES

رئاسة ماكرون الشابة تصطدم بإرث فرنسا العجوز

رئاسة ماكرون الشابة تصطدم بإرث فرنسا العجوز

غالبا ما يُلقي الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون ذو الاتجاهات الليبرالية باللوم في فشل فرنسا، في تحديث الاقتصاد ودولة الرعاية الاجتماعية، وفي الازدراء الشعبي تجاه النخبة السياسية، على استعداد أسلافه للعدول تماما عن رأيهم في مواجهة الاحتجاجات.
الآن واجه الرئيس الفرنسي على هندسة تراجعه لإنقاذ برنامجه الإصلاحي – في موقف ربما يكاد أن يكلفه رئاسته، نفسها.
قال إدوار فيليب، رئيس الوزراء، يوم الثلاثاء الماضي إنه سيتم تعليق زيادات الضريبة المقررة على الوقود لمدة ستة أشهر، التي كانت الحافز لاحتجاجات "حركة السترات الصفراء" وأعمال الشغب في باريس التي هزت الحكومة الفرنسية.
هذا أول تنازل مهم عن السياسات الليبرالية منذ تولي ماكرون الرئاسة قبل 18 شهرا. قال فيليب في اجتماع لأعضاء البرلمان من حزب حركة "الجمهورية إلى الأمام" الحاكم: "ما نمر به الآن هو لحظة محورية في فترة ولاية الحكومة في المنصب".
أحد شعارات ماكرون منذ زمن طويل هو أن الحكومة التي تتنازل عن قراراتها، هي حكومة يُمكن إخراجها عن مسارها من قِبل المنافسين السياسيين والمصالح المكتسبة.
منذ توليه السلطة، دفع ماكرون بإصلاحات لسوق العمل، والتعليم، والتدريب المهني والسكك الحديدية التابعة للدولة. ومازال الآن يعمل على إعداد إصلاحات قد تكون مثيرة للجدل لنظام المعاشات التقاعدية ونظام التأمين ضد البطالة، وإن تراجع عن الوتيرة الأولى.
على الرغم من أن شعبيته كانت هابطة في الأصل عند مستويات قياسية بنسبة 26 في المائة قبل اندلاع الاحتجاجات في الشهر الماضي، إلا أن ماكرون بدا مصمما على المضي قدما في قرارته الجريئة، معتقدا أن ثمار الإصلاح ستستعيد تأييد الناخبين له، فإذا به يفاقم الوضع.
في حديثه في بروكسل يوم الثلاثاء الماضي، قال برونو لو مير، وزير مالية فرنسا: إن فرنسا ستلتزم بخططها لخفض العجز والديون، فيما يتجاوز التلميح إلى التصريح، بأن ما حدث من تراجع هو خطوة إلى الوراء، من أجل انطلاق عشر إلى الأمام، لاحقا.
مع ذلك، فإن ماكرون وفيليب اضطرا إلى إجراء تنازلات تكتيكية بسبب خطورة الوضع، فهما يتعرضان للضغط لتجنب مزيد من العنف في عطلات نهاية الأسبوع بعد انفجار احتجاجات أيام السبت، إلى أسوأ أعمال شغب في وسط باريس منذ 50 عاما، ما يُشكك ليس فحسب، بل وفي شعبيتهما أيضا في سلطتهما.
قال فيليب في خطاب متلفز يوم الثلاثاء الماضي: "لا توجد ضريبة مهمة بما فيه الكفاية لتعريض وحدة الأمة للخطر".
الزعيم وضابط موازنته ينحنيان أيضا للضغط من الجانب المؤيد لهما. كثير من أعضاء البرلمان من حركة إلى الأمام انضموا إلى المعارضة في مطالبة الحكومة بالتخلي عن زيادات الضرائب على الوقود، التي كان من المقرر أن تصبح سارية المفعول في الشهر المقبل.
يواجه ماكرون "أزمة خطيرة للغاية" يُمكن القول إنها أكثر خطورة من إضرابات واحتجاجات عام 1995، التي أطاحت بحكومة آلان جوبيه الإصلاحية من يمين الوسط، كما قال أوريليان تاشيه، عضو البرلمان من حركة "إلى الأمام".
وأضاف أن الاحتجاجات هذه المرة هي بدون قيادة ولا هيكل ولا مجموعة من المطالب متفق عليها، وبالتالي من الصعب أكثر نزع فتيلها.
قال تاشيه: "إنه تمرد قوي إلى حد ما ضد الضرائب، وضد الحكومة المركزية، وضد السياسيين المنتخبين. بالنسبة لفرنسا، كل هذا جديد علينا".
حتى الآن، كانت الحكومة ترفض التنازل عن ضرائب الوقود، مُعتبرة أن التحوّل إلى فرض ضرائب على الكربون، هو أمر مهم للحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في فرنسا. كما يحتاج ماكرون أيضاً إلى الاحتفاظ بتأييد أصوات ناخبي الحزب الأخضر قبل الانتخابات الأوروبية الحاسمة، العام المقبل.
يبدو أن التنازلات التي أُعلن عنها يوم الثلاثاء الماضي، كانت تهدف على وجه التحديد إلى معالجة الشكاوى من حركة السترات الصفراء، التي ولدت كحركة من سائقي السيارات الغاضبين من الارتفاع السريع في تكلفة الديزل.
قال فيليب إنه سيؤخر أيضا إدخال فحص سلامة أكثر إرهاقا وكلفة للسيارات المقرر أن يدخل حيز التنفيذ العام المقبل.
على أن كل تلك التدابير فشلت في التأثير في المتظاهرين أو أحزاب المعارضة في فرنسا، على حد سواء، فقد أتاحت لليمين ولليسار معا، الانتقام من الرئيس الشاب وبرنامجه المماثل.
قال بنجامين كوشي، عضو بارز في حركة السترات الصفراء في جنوب غربي فرنسا، لتلفزيون بي إف إم: "الفرنسيون يُريدون الآن أكثر من مجرد الفتات. إنهم يريدون الرغيف كاملا".
قالت مارين لوبن، زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف على منصة "تويتر": "تعليق الإجراء هو مجرد تأخير. من الواضح أنه لا يلبي توقعات الشعب الفرنسي أو معركته مع انعدام الأمن الاقتصادي".
احتجاج حركة السترات الصفراء تضخم إلى أكثر من مجرد حركة سائقي السيارات، فقد أصبح ثورة ضد ما يعد نظام ضرائب مُرهقا وغير عادل وخدمات غير كافية، علاوة على إهمال المناطق الريفية وشبه الريفية، في ظل رئيس ونخبة سياسية يُعتبران بعيدين كل البُعد عن الناس العاديين. بنسبة 48.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فإن وزن الضرائب في فرنسا هو الأعلى، مقارنة بمعظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
قال المحلل نيكولاس بوزو: "من الواضح تماما أن هذا لن يكون كافيا لأن المشاكل هي أكثر عمقا من زيادات الضرائب على الوقود. لدينا مشكلة حقيقية في مستويات المعيشة وهناك كراهية حقيقية للنخب السياسية والمؤسسات الحاكمة. زيادات الضرائب على الوقود لم تكن أكثر من مجرد حافز".
المتظاهرون وزعماء المعارضة يطالبون الحكومة باتخاذ إجراءات فورية لرفع مستويات المعيشة. وأشار فيليب إلى أن الحد الأدنى الوطني للأجور كان من المقرر في الأصل أن يزيد بنسبة 3 في المائة الشهر المقبل، مضيفاً أنه لن تكون هناك أي زيادة في أسعار الكهرباء حتى أيار (مايو) المقبل. لا يرجح لهذا أن يكون كافيا، لكن الحكومة محاصرة من قواعد المالية العامة في الاتحاد الأوروبي ومن اقتصاد يتعرض للوهن. تشير التقديرات إلى أن التنازلات عن ضريبة الوقود سوف تكلف الدولة 1.6 مليار دولار في السنة المقبلة، ما يدفع بعجز الموازنة الفرنسية – الذي من المتوقع أن يبلغ 2.8 في المائة من الناتج المحلي في عام 2019 – بشكل خطر للنهاية القصوى التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، وهي 3 في المائة.
بعض حلفاء ماكرون يريدون استخدام الاحتجاجات للضغط من أجل إصلاح جذري أكبر للنظام الضريبي. في يوم الإثنين الماضي قال جان ميشيل بلانكيه، وزير التعليم: "نحن بحاجة إلى تحويل وضع سيئ ليصبح وضعا جيدا، وهذا يعني إعادة تصميم النظام الضريبي".
يوم الثلاثاء الماضي، قال فيليب إنه ستكون هناك مشاورات على مستوى فرنسا بشأن الإنفاق العام والضرائب في السنة المقبلة، التي "ينبغي أن تؤدي إلى حلول ملموسة". أما رئيس الوزراء فقال إن: "نظامنا الضريبي معقد للغاية ويتعرض لانتقادات واسعة لكونه يفتقر إلى الإنصاف. لا يريد الفرنسيون زيادات ضريبية ولا يريدون أي ضرائب جديدة". بإمكان ماكرون محاولة استخدام الغضب العام بشأن الضرائب، الذي ظهر واضحا في حركة السترات الصفراء، من أجل تسريع الجهود الرامية إلى جعل القطاع العام أكثر كفاءة، وتحرير المال اللازم للتخفيضات الضريبية – وهو إجراء ينسجم تماما مع أجندته الإصلاحية.
على أن الخطر المباشر يتمثل في أن مزيدا من اندلاع الأزمة يمكن أن يؤدي إلى إضعافه، وبالتالي هزيمة الحكومة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES