ثقافة وفنون

إدجار موران: حضارة الكهرباء لم تضئ ظلام نفوسنا

إدجار موران: حضارة الكهرباء لم تضئ ظلام نفوسنا

إدجار موران: حضارة الكهرباء لم تضئ ظلام نفوسنا

إدجار موران: حضارة الكهرباء لم تضئ ظلام نفوسنا

لم يحل التقدم في السن – 97 سنة – من النشاط والحيوية الفكريين للفيلسوف الفرنسي الشهير إدجار موران، فهذا المفكر لا يزال أحد المثقفين الفرنسيين الأكثر تأثيرا في الساحة الفكرية الفرنسية والعالمية؛ لما لمؤلفاته من أهمية، ولاهتماماته من سعة، ولمواقفه من أحقية، ولثباته الدائم في الدفاع عن القضايا الإنسانية العادلة.
يعد صاحب نظرية التعقيد والفكر المركب، من المثقفين العالميين القلائل الذين ما زال بالإمكان وصفهم بالمثقف "الإنساني الملتزم". فلم يتوان الرجل يوما عن اتخاذ مواقف صريحة وواضحة من معظم القضايا المطروحة على الإنسانية، ساعيا من وراء ذلك إلى فهم تعقيداتها، لا إلى إثبات آرائه بشأنها؛ كما هو حال أغلب المؤدلجين من "مثقفي السيجار"، بتعبير الراحل عبد الرحمن بدوي.
بدأ إدجار موران حياته النضالية شيوعيا، وخاض تجربة المقاومة في ريعان شبابه، وكان من داعمي استقلال الجزائر عن فرنسا، وتعاطف إلى أبعد الحدود مع القضية الفلسطينية؛ وهو اليهودي الأصول، غير خائف من وصمه بتهمة معاداة السامية. وبلغ به الأمر أن ألف كتابا؛ تعرض لتعتيم إعلامي مريب، بعنوان "العالم الحديث والقضية اليهودية".
كانت تجربته في الحزب الشيوعي مخيبة لآماله، ما حفزه على البحث في دواعي فشل الثورات؛ في التجارب ذات المرجعية الشمولية (السوفياتية والصينية)، ليصل إلى قناعة مفادها أن الحل يكمن في الانفتاح الإنساني. وقد عبر عن هذا الأفق الإنساني، حين قال ذات مرة: «نحن نحمل في داخلنا، ليس الإنسانية والحياة بمجملها فحسب، بل كذلك الكون برمته تقريبا، بما فيه لغزه الذي يرقد في أعماقنا».
عادة ما يستغل المفكرون عامل السن في مجال البحث لبناء نظريات تنسب لهم، لكن صاحبنا لا يميل لهذا الاختيار على الإطلاق، فالأولوية بالنسبة له تبقى هي تفسير الواقع. ما جعله على الدوام في زمرة السباقين إلى تحسس القادم، من خلال قراءة معطيات الحاضر، واستشراف محمولات المستقبل.
شكل البحث عن الفهم محركا له، فحتى الدخول إلى الجامعة بالنسبة له "لم تكن غايته الحصول على مهنة، بقدر ما كان مهموما بفهم ماهية المجتمع، وماهية الكائن البشري". ويضيف في ذات السياق "لقد فكرت يومئذ، دون التعرف الجيد على كارل ماركس، أنه الطريق الجيد؛ ماركس كان يريد معرفة ماهية حقيقة العالم، والإنسان، والتاريخ، والاقتصاد. ولذلك قمت بتسجيل نفسي في شعب التاريخ والفلسفة والعلوم السياسية، وفي ذات الوقت في القانون لاقترانه بدروس في العلوم الاقتصادية. وشرعت في قراءة أعمال علماء الاجتماع، وبفضلهم فهمت أنه يتعين على المرء أن يعي تاريخه ويعيشه هو بذاته".
يعبر موران بشكل واضح، عن المهمة التي اختارها لنفسه، والمتمثلة في إقامة صلات بين ما لا يتواصل، ويتم فصله؛ أي بين قارات المعرفة الأربع التي تشكل أسس الحضارة: الطبيعة (الفيزياء) والحياة (البيولوجيا) والأفكار (المعرفة) والبشرية (الأنثروبولوجية). حيث استطاع من العمل بها معا توليد نوع جديد من المعرفة "منهج"، منفلت من كل أشكال التأطير المألوفة. نجح موران في توظيف قدرته على التعاطي مع التضاد والتناقض، فأسس لنموذج أساسه التعقيد والتركيب؛ أي الجمع والتفريق.
فكتب قبل الآخرين، لا بل قبل الأوان، عن مشاكل الأوروبيين، وأزمة التعليم، والأضرار التي تهدد البيئة وعن غيرها من مواضيع ذات طابع إشكالي، ما جعل من هذا الفيلسوف؛ ذي النزعة الإنسانية، رقما صعبا، يستحيل تحجيمه أو تفاديه في المشهد الفكري العالمي. أصدر عام 2005 كتاب "الثقافة والبربرية الأوروبية"، و"أين يسير العالم" عام 2007. ورأت مذكراته بعنوان "يوميات" النور في ربيع عام 2013، التي تعود بدايات الشروع في كتابتها إلى عام 1962.
تتكون هذه اليوميات من مجلدين، يغطي الأول منها ربع قرن؛ يمتد في الفترة ما بين عامي 1962 و 1987، أما المجلد الثاني فيغطي سنوات ما بين 1992 و 2010. تشمل هذه اليوميات على تحليلات وملاحظات وتعليقات شخصية حول مواقف أو أحداث وتأملات، في شؤون السياسة والفكر والواقع الدولي.
بدأ في تحرير مذكراته تلك حين كان في الأربعين من عمره، بعدما حل ضيفا في هذا التاريخ على أحد المستشفيات في مدينة نيويورك، بسبب مرض خطير ألم به. فحاصرته فكرة التأمل في مسيرة أربعة عقود من حياته؛ بكل منعطفاتها وتحولاتها العديدة، لاستخراج ما كان أساسيا، حسب رأيه، من أفكار ورؤى وتصورات للحياة والاجتماع الإنساني.
حرص هذا الحكيم على تضمين يومياته ما يصل إليه من "اكتشافات جديدة"، في مسيرة حياته ورحلة البحث والتقصي في الفكر وفي الواقع. كما تجد المشكلات العائلية والأزمات الشخصية مكانة لها في هذه اليوميات. لكنها تبقى، في المقام الأول، شهادة شخصية لمفكر ثقيل، حول مرحلة كاملة من تاريخ فرنسا، ومن أحداث العالم وتياراته السياسية والفكرية.
يؤكد موران في يومياته على أن الإنسانية أدركت، وللمرة الأولى في التاريخ، أن كل البشر معنيون بمشكلات مشتركة في الأركان الأربعة للعالم. حقيقة تستدعي العمل، من قبل الجميع، لتجنب الكوارث التي يتجه نحوها الجميع. وفي مقدمة تلك الأخطار يورد: التدهور البيئي المتزايد، وتعاظم ظواهر الغلو والتطرف في مختلف المناطق، وفقدان الضوابط لتنظيم الاقتصاد، وارتباط العلم والتكنولوجيات بقوى عمياء بشكل لا يتصور.
يخلص هذا المفكر الإنساني إلى أن الحضارة الراهنة تعطي الأولوية لما هو "مباشر" وللتكنولوجيا في إطار الثورة الرقمية، وتقلص بالمقابل من معرفة الماضي؛ أي التاريخ، ما يجعلها في خطر متزايد، لأن "تكريس الانتباه على الحاضر والمباشر يقود للنسيان"، ولا أدل على ذلك من كون "حضارة الكهرباء لم تضئ الظلام الداخلي".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون