أخبار

فرنسا .. حراك «أصفر» ينذر بشبح ثورة 1968

فرنسا .. حراك «أصفر» ينذر بشبح ثورة 1968

فرنسا .. حراك «أصفر» ينذر بشبح ثورة 1968

شدت الأنظار نهاية هذا الأسبوع إلى فرنسا لمتابعة مجريات الأسبوع الرابع على التوالي لاحتجاجات حركة "السترات الصفراء"، التي أطلق عليها المؤرخ الفرنسي ماتيلد لارير وصف "حركة المستهلكين"؛ فسبب التظاهر، من وجهة نظره، هو ذاته، الذي أجّج عدة حركات اجتماعية منذ العصر الوسيط، لأن "السؤال كان دوما حول الحصول على الغذاء. سابقا، كان ثمن الخبز، والآن هو ثمن البنزين".
يختلف الخروج الرابع للحركة عما سبقه، لأنه يأتي بعد قرار الحكومة إرجاء تنفيذ الزيادات الضريبية حتى وقت لاحق، وبعد أعمال العنف والشغب والفوضى والتخريب التي رافقت احتجاجات الفاتح من ديسمبر، ما دفع الحكومة من جانبها إلى الاستعداد تجنبا لتكرار ذات السيناريو، فوق بيانات وزارة الداخلية الفرنسية وتمت تعبئة 89 ألف رجل أمن، منهم ثمانية آلاف في العاصمة باريس وحدها، كما تمت الاستعانة بمدرعات تابعة لقوات الدرك، وهو ما يحدث لأول مرة منذ نحو 13 عاما.
بلغ عدد المعتقلين حتى كتابة هذه الأسطر 1358 شخصا، منهم أكثر من 737 في العاصمة باريس وحدها، بعدما تحولت الحركة إلى ما يشبه السيل الذي خرج عن مجراه، عقب التحاق الطلاب والمزارعين وسائقي الشاحنات وغيرهم إلى صفوفها.
ما يحدث هذه الأيام يعيد إلى ذاكرة الفرنسيين ثورة مايو (أيار) 1968، التي تبقى غير قابلة للتجاوز، ذلك أنه لم يسبق أن عاشت فرنسا فصولا من هذا الانبثاق القوي لحركات الاحتجاج، منذ ذلك التاريخ الاستثنائي في ذاكرتها السياسية والثقافية.
لكن المقارنة من ناحية المضمون الثقافي والأيديولوجي تبدو غير مغرية، لوجود عديد من الفوارق الشاسعة بين الواقعتين، فاللبوس الإيديولوجي لثورة 1968 كان يساريا بأحلام جامحة. فيما حركة 2018 أقرب ما تكون إلى اليمين بسقف مطالب متذبذب، فقد تحولت من تحرك اعتراضي على رفع أسعار المحروقات إلى حراك اختلط فيه الجانب الاجتماعي المطلبي والجانب السياسي الراديكالي الذي وصل إلى حد المطالبة باستقالة الرئيس وحل مجلس الشيوخ.
كما أن هذه الحركة بلا رأس ولا قيادة واضحة، فأساس قوتها كامن في التركيز الإعلامي عليها، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي سلطت عليها الأضواء، ووفرّت لها صدى لافتا. في حين كانت أسماء ثقيلة فكريا وثقافيا وسياسيا حاضرة في الصفوف الأولى لثورة الشباب أمثال جون بول سارتر وجيل دولوز وميشال فوكو وجان جنيه... وآخرين.
يبقى الفارق الكبير بين الحدثين في مبررات الاحتجاج، فإن كانت أسباب ثورة الشباب معروفة ومحددة، فدواعي ما يجري اليوم فضفاضة نجملها في "الغضب" و"الإحساس بالظلم"... وما إلى غير ذلك، مما يمكن اعتباره مظهرا من مظاهر أزمة مركبة، يتداخل فيها الاقتصادي والسياسي بالاجتماعي، التي يرجح أن تمتد إلى باقي أنحاء أوروبا، ما لم تتدارك بلدان القارة العجوز نفسها بتدابير وقائية من ذات المصير.
ليس من المبالغة في شيء القول بأن فرنسا اليوم تدفع ضريبة الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008، إذ لم تعد الحكومات قادرة على تحمل كلفة تحقيق "دولة الرخاء الاجتماعي"، ما يعني إضافة أعباء اجتماعية على مواطن ألف العيش في مستوى معين. ما يجعل هذه البلدان أمام مفارقة: إما الزيادة في الضرائب للحفاظ على هذا المستوى من الرخاء الاجتماعي، أو تقليصها مع ما يعنيه ذلك من تخلي الدولة عن عدد من التزاماتها الاجتماعية في التعليم والصحة... وغيرها. لذلك الحل أحد الخيارين، ويبقى أحلاهما "مر" في ميزان السياسة اليوم. وهذا ما لم يدركه السياسي الحالم زعيم الاشتراكيين الحالم جان لوك ميلانشون حين سارع إلى التنويه بنجاح مظاهرة اليوم، التي سماها "ثورة مُواطِنة" أبيّة على أي احتواء واستغلال، باعتبارها أقوى من مظاهرة السبت الماضي. ووجَّه الشكر، مرات عديدة، لحركة السترات الصفراء، التي بحسب قوله تسير "على غرار ما فعله قانون 1905 من الفصل بين الدين والدولة، قامت بالفصل ما بين المال والدولة".
مهما يكن أمر النتائج التي يحققها حراك "السترات الصفراء"، المتمثلة كحد أدنى في وقف الزيادات الضريبية الذي تم تحقيقه قبل أسبوع، أو كحد أعلى في إعفاء رئيس الحكومة إدوارد فليبي، المرجح أن يكون "كبش فداء" هذا الحراك بحسب بعض المحللين الفرنسيين، في ظل توارد أخبار عن إلقاء رئيس الدولة إيمانويل ماكرون لخطاب مطلع الأسبوع المقبل إلى عموم الشعب الفرنسي.
بالرغم مما يحمله قرار الإعفاء هذا من مغامرة غير محسوبة العواقب لو اتخذ، فالعرف جرى أن تغييرات قمرة القيادة في فرنسا لا تتم إلا بعد إجراء الانتخابات محلية كانت أو أوروبية. فذلك يعني بكل بساطة تحويل مدفعية الحركة مباشرة صوب الرئيس ماكرون الذي تحول إلى رئيس أقلية، يحاول أن يحكم فرنسا بشكل عمودي دون عناية للخطوط الأفقية للعلاقة بين الحكام والمحكومين، ما أوصل شعبيته؛ وفق آخر استطلاع للرأي، لنسبة متدنية، لم يسبقها نظير في التاريخ السياسي الفرنسي المعاصر.
يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضيع على نفسه فرصة ذهبية لقيادة أوروبا، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، وقرار المستشارة الألمانية أنجيل ميركل اعتزال السياسة. فما يجري هناك من أحداث طيلة أسابيع، أدى إلى إضعاف موقع فرنسا الجيوسياسي في أوروبا، ومن المتوقع أن تكون له تداعيات سلبية على انتخابات البرلمان الأوروبي. كما أنه فرصة لسياسيين كثر أمثال الأمريكي دونالد ترامب والإيطالي ماتيو سالفيني والتركي طيب رجب أردوغان للسخرية والشماتة من إيمانويل ماكرون ومن الديمقراطية الفرنسية.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من أخبار