FINANCIAL TIMES

بعد عقد من الإنقاذ .. صناعة السيارات الأمريكية «محلك سر»

بعد عقد من الإنقاذ .. صناعة السيارات الأمريكية «محلك سر»

بعد عقد من الإنقاذ .. صناعة السيارات الأمريكية «محلك سر»

أدلى ستيف راتنر، مستشار صناعة السيارات في إدارة باراك أوباما، الرئيس الأمريكي الأسبق ذات مرة بتعليق ساخر على وضع صناعة السيارات الأمريكية، والدفاع عن محاولات تلك الإدارة إنقاذها: لم نكُن نضع اللون الأحمر على فم خنزير لنعيده إلى الزريبة".
كان ذلك عندما كان يتفكر في الأزمة التي عصفت بشركات صناعة السيارات الثلاث الكبيرة في ديترويت قبل عقد من الزمن – وها نحن أمام المستقبل الذي يبدو على الأقل صعباً بالقدر نفسه، بعد عقد كامل من المعاناة التي تلت الإنقاذ، وكأن شيئا لم يكن.
في ذلك الحين، كان القلق يكمن في السؤال نفسه هو: هل ستنجو الشركات الكبرى الثلاث، التي تعد العمود الفقري لصناعة السيارات في الولايات المتحدة، ومفخرتها ذات حين، أي فورد وجنرال موتورز وكرايزلر من الأزمة المالية؟
اليوم، باتت قضية النجاة، أو الإنقاذ من الموت بالأحرى، مرة أخرى قيد النقاش.

قضية الإنقاذ مختلفة الآن
لم يعد وضع ركود الاقتصاد الأمريكي أو العالمي، هو القضية، فالتحدي الراهن بات يكمن في الأبعاد التكنولوجية: هل تستطيع شركات صناعة السيارات التقليدية الاستمرار في عالم حيث سيارات تقود نفسها، وتتم مشاركتها، وتعمل بالكهرباء على نحو متزايد؟
التنافس في ذلك العالم يتطلب استثمارات بعدة مليارات الدولارات لإنشاء سيارات تقود نفسها، ونماذج أعمال يُمكنها كسب المال من أساطيل السيارات المستقلة.
يقول تنفيذيون في صناعة السيارات ومطلعون في الصناعة، إن خفض التكاليف، وإلغاء علامات تجارية واتفاقات عمالية تم التخلص منها قبل 10 أعوام، تضع الشركات الثلاث الكبرى على مسار لبيع السيارات التقليدية بشكل أكثر ربحية الآن – والاستثمار في مستقبل لم يكُن في ذلك الحين، حتى في الأفق.
وأضافوا أن التدابير الصارمة التي اتخذت في ظل الأزمة ستُساعد أيضاً شركات صناعة السيارات على مواجهة الضعف المقبل في سوق السيارات الأمريكية، حيث من المتوقع أن تنخفض مبيعات السيارات الجديدة في الولايات المتحدة هذا العام إلى أقل من 17 مليونا، بانخفاض من 17.2 مليون العام الماضي و17.6 مليون عام 2016.
راتنر، الذي قاد جهود الإنقاذ من الحكومة الأمريكية أخبر صحيفة فاينانشيال تايمز في مقابلة: "أردنا إعادة هيكلة شركات السيارات بشكل دائم. استثمرنا 82 مليار دولار، واستعدنا 72 مليار دولار، الأمر الذي أبقى على عاتق دافعي الضرائب "في الولايات المتحدة" مبلغ 10 مليارات دولار، لكننا أنقذنا صناعة كاملة ومليون وظيفة".
أصر راتنر على "أن هذه صفقة جيدة" مقارنة بطرق أخرى أنفقت فيها الحكومة الأمريكية النقود للتخفيف من الأزمة المالية عام 2008 – وقال إنها تستمر بدفع أرباح الأسهم اليوم.
"قمنا بتخفيض تكاليف الصناعة بحيث تستطيع جني المال من بيع 10 أو 10.5 مليون سيارة سنوياً، بدلاً من الحاجة إلى بيع 16 أو17 سيارة لكسب أي مال.. وضعنا شركات السيارات على أساس مالي قوي لتحقيق أرباح جيدة في العالم، فذلك كما نعرف هو أمر بالغ الأهمية بالنسبة لها لتحقق الأرباح في عالم لا نعرف بعد ماذا سيكون".
قبل 10 أعوام في مثل هذا الشهر ذهب الرؤساء التنفيذيون لشركات فورد وجنرال موتورز وكرايزلر، أول مرة إلى واشنطن، للتوسل للحصول على أموال الحكومة لمساعدتهم خلال الأزمة المالية، الأمر الذي أثار غضب الكونجرس والجمهور، بسبب ركوبهم طائرات فاخرة تابعة للشركات، للذهاب إلى هناك.

خسائر إلى حد الإفلاس
بحلول ذلك الوقت، كانت شركات ديترويت الثلاث تخسر عشرات المليارات من الدولارات سنوياً.
كانت شركة فورد قد قامت برهن جميع أصولها، ووصلت حتى إلى الشكل البيضوي الأزرق الأيقوني لشعارها. جميع الشركات الثلاث واجهت تكاليف مرهقة للرعاية الصحية للمتقاعدين، وعقود توظيف قديمة أجبرتها على الدفع للعاملين مقابل عدم العمل. الأسوأ من ذلك أن المستهلكين في الولايات المتحدة لم يرغبوا في شراء سياراتها. شركتا جنرال موتورز وكرايزلر اضطرتا إلى إعلان الإفلاس بعد فترة وجيزة من تولي أوباما الرئاسة، مع استخدام أموال الإنقاذ لإبقائهما عاملتين أثناء عملية إعادة الهيكلة.

إعلان الإفلاس.. كان الأفضل
الآن، بعد مرور فترة على تلك الأحداث، قال بعض التنفيذيين في شركات السيارات، ومسؤولون حكوميون ومطلعون في الصناعة إن الإفلاس ربما كان أفضل شيء حدث على الإطلاق لشركتي جنرال موتورز وكرايزلر.
بل إن البعض تساءل عما إذا كانت شركة فورد، التي تمت الإشادة بها على نطاق واسع لتجنب الحاجة إلى المساعدات الحكومية في ذلك الحين، قد تكون الآن هي من يدفع العقوبة؛ لأنه لم يُفرَض عليها اتخاذ الإجراءات الصارمة التي فُرضت على منافساتها عموماً، ومنافستيها الكبيرتين، بالذات.
"أعتقد ربما بنوع من المجاملة أنه يُمكننا القول إن "الإفلاس" هو أفضل شيء" يُمكن أن يكون قد حدث لشركة جنرال موتورز، بحسب قول آل كوتش، المتخصص في تصويب الأوضاع في الشركة الاستشارية أليكس بارتنرز، الذي تولى منصب كبير الإداريين لإعادة الهيكلة في شركة جنرال موتورز خلال تلك الفترة.
وأضاف: "هذا سمح لنا بفعل ما كان يُمكن أن يكون مستحيلاً خلافاً لذلك، وهو تحديد الحجم الصحيح للمؤسسة ... وهذا وضع الأساس للتعافي المذهل الذي أظهرته شركة جنرال موتورز، منذ ذلك الحين".
بوب لوتز، الذي كان نائب رئيس مجلس الإدارة في شركة جنرال موتورز، خلال فترة الإنقاذ، أخبر صحيفة فاينانشيال تايمز أن "الفائدة الأولى" من الإفلاس كانت أنه جعل من الممكن لشركة السيارات "التخلص من العلامات التجارية الزائدة من دون إنفاق مليارات الدولارات على تعويض التجار". تم التخلص من العلامات التجارية ساتيرن وهامر وبونتياك.
الفائدة الثانية كانت أن ضغط الحكومة على نقابة عمال السيارات المتحدين سمح لشركة جنرال موتورز، بخفض القدرة الفائضة وإلغاء ما يسمى "بنك الوظائف"، الذي كان يسمح للعاملين في شركات السيارات في الولايات المتحدة بالحصول على 95 في المائة من أجرهم، حتى عندما تكون وظائفهم معطلة بسبب إغلاقات المصانع أو الانقطاعات المؤقتة.
أضاف لوتز: "الشركة التي تم إنقاذها فعلاً كانت شركة فيات. (رئيس فيات سيرجيو) ماركيونه حصل على شركة كرايزلر كهدية من الحكومة الفيدرالية"، التي استنتجت في آذار (مارس) من عام 2009، أن شركة صناعة السيارات في ديترويت ليست قادرة على البقاء على قيد الحياة كشركة قائمة بذاتها، وضغط عليها لتكوين عملية دمج سريعة مع المجموعة الإيطالية.
دفعت الحكومة الأمريكية 12.5 مليار دولار لشركة كرايزلر كجزء من عملية الإنقاذ، تم سداد 11.2 مليار دولار منها في أيار (مايو) من عام 2011، أي قبل ستة أعوام من الموعد المحدد.
من ناحية أخرى، تمت الإشادة بشركة فورد لرفضها قبول عملية الإنقاذ. كانت لديها الحصافة المُسبقة لاقتراض 23.6 مليار دولار لإعادة هيكلة الشركة عام 2006، قبل أن تبدأ الأزمة المالية، فيما وصفه الرئيس التنفيذي في ذلك الحين آلان مولالي بأنه "أكبر قرض في التاريخ لتحسين المنزل".
قال راتنر: "لم تكُن شركة فورد بحاجة إلى إعلان الإفلاس"، مُشيراً إلى أن المساهمين في كل من شركتي جنرال موتورز وكرايزلر خسرتا كل استثماراتهم، المشكلة بإعلان الإفلاس في شركة فورد "كان أن" آخر شيء أرادته عائلة فورد هو خسارة المساهمين فيها".
قال لوتز: "لفترة طويلة، استفادت فورد بشكل كبير من عدم التعرض "للإفلاس"". في ذلك الوقت، اعتقد معظم التنفيذيين في شركات السيارات أن أي شركة سيارات تُعلن الإفلاس، ستجد أن من المستحيل عليها بيع السيارات؛ لأن المشترين سيشعرون بالقلق بشأن الإصلاحات والضمانات.
وقال: "أعلنوا هذه الحقيقة، نموذج شركة السيارات الصغيرة الشجاعة نجحت وحدها طوال فترة من الزمن، حيث حصلت على زخم هائل، إلا أن الشركة قد قللت من جهودها لإدخال منتجات جديدة، في الآونة الأخيرة".
وقال مصدر مقرّب من الشركة إن شركة فورد مضطرة إلى إجراء تخفيضات الآن من دون مساعدة الحكومة، التي كان من الممكن أن تكون أخف لو أنها تمت كجزء من عملية إفلاس.
أعلنت شركة فورد في وقت سابق من هذا العام أنها ستتخلص من جميع العلامات التجارية لسيارات الصالون في أمريكا الشمالية، أو تحويل أعمالها ذات الأداء الضعيف في عملية إعادة هيكلة يُمكن أن تُكلّف 11 مليار دولار، لكنها ستخفض التكاليف 25.5 مليار دولار بحلول عام 2022؛ أي نحو 3 في المائة سنوياً.
شركة جنرال موتورز تشدد النفقات أيضاً، حيث تقدّم عمليات شراء طوعية لما يصل إلى 18 ألف موظف من العاملين براتب لديها في الولايات المتحدة.
مع الأرباح المعدلة قبل هامش الفوائد والضرائب بـ 8.8 في المائة للربع الثالث – ضعف أرباح شركة فورد للفترة نفسها– فإن شركة جنرال موتورز بعد الإفلاس لديها عمليات أقل لتقليصها.
بحلول العام الماضي، بلغت عائدات رأس المال المستثمر في شركة جنرال موتورز 5.4 في المائة، أكثر من ضعف ذلك في شركة فورد الذي كان بـ 2.4 في المائة.

تكلفة استعادة التنافسية
قال كوتش من شركة أليكس بارتنرز، إن حجم الاستثمارات اللازمة لإعداد شركات صناعة السيارات الثلاث الكبيرة، للمنافسة في عالم من السيارات ذاتية القيادة والأنواع الجديدة من التنقل، "يُمكن أن يضغط على الميزانيات العمومية بطريقة لم نشهدها منذ الانهيار الذي سبق الركود العظيم"، مُضيفاً أن: "الاختبار الحقيقي سيكون ما إذا كانت الصناعة قادرة على الحفاظ على انضباطها المالي، في مواجهة الإنفاق الإضافي اللازم للتحول إلى التنقل الجديد، إلى جانب ما يبدو بالتأكيد أنه انخفاض صناعي دوري".
عندما سُئل عما إذا كان سيدعم عملية إنقاذ أخرى، إذا ما تعثرت الشركات الثلاث الكبرى في طريقها إلى عالم من التنقل الجديد، قال راتنر: "أنقذناها لأننا كنا نرى أنها يُمكن أن تكون قادرة على البقاء، إذا واجهت المشاكل بسبب السيارات المستقلة أو حتى الكهربائية، وإذا لم تكُن قادرة على المنافسة فسأصوّت لإخراجها من العمل".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES