Author

خطوات كورية مهمة على طريق السلام

|
المطلع على الأدبيات الخاصة بالحرب الكورية "1950 ــ 1953" سيكتشف بسهولة أن شبه الجزيرة الكورية وسكانها كانوا إحدى ضحايا تداعيات الحرب العالمية الثانية. فبمجرد انتهاء هذه الحرب وانهزام اليابانيين الذين كانوا يحتلون كوريا تم تقسيم الأخيرة مثلما قسمت بلاد عديدة أخرى بين المنتصرين الكبيرين "الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي"، دون استشارة أهلها، بل تم التقسيم، أو وضع الخط الفاصل بين القوات الأمريكية والسوفياتية، بطريقة اعتباطية عند خط العرض 38 في جلسة لم تستغرق سوى ساعة، وبالاعتماد على خريطة مصدرها مجلة "ناشيونال جيوغرافيك". وطبقا لهذا التقسيم استسلمت القوات اليابانية الموجودة شمال خط العرض 38 للسوفيات، واستسلمت مثيلاتها الموجودة جنوب الخط للأمريكيين. هذه الترتيبات أسهمت في حدوث كثير من المشكلات والآلام لاحقا. فعلى الرغم من تعهد محتلي كوريا الجدد أنهما سوف يديرانها لمدة أربع سنوات تحت وصاية دولية تنتهي بترك الحرية للشعب الكوري لتقرير مصيره، فإنهما زرعا خلال تلك السنوات الأربع بذور التقسيم الأيديولوجي من خلال قيام موسكو بإقامة حكومة شيوعية موالية لها في الشمال وقيام واشنطن بالشيء نفسه في الجنوب، الأمر الذي أدى إلى سلسلة من التمردات الدموية في الشمال وحدوث اضطرابات في الجنوب انطلقت من مبدأ عدم رغبة الكوريين استبدال الاستعمار الياباني باستعمار جديد. وخلال الفترة 1949 ــ 1950 تنافس زعيم الشطر الجنوبي "سيجمون ري"، وزعيم الشطر الشمالي "كيم إيل سونج" على توحيد كوريا عبر المناوشات والأعمال الدعائية، غير أن الأخير تجاوز ذلك إلى إشعال حرب أهلية، وذلك حينما أمر قواته المدججة بالأسلحة السوفياتية بعبور خط العرض 38 باتجاه الجنوب في فجر يوم 25 حزيران (يونيو) 1950 فحقق نجاحا هائلا تجلى في احتلاله سيئول وعديدا من المدن الأخرى، وهو ما دعا الأمريكيين وحلفاءهم في أستراليا ونيوزيلندا وجنوب شرق آسيا للتدخل عسكريا لوقف الزحف الشيوعي، خصوصا بعد نجاح واشنطن في استصدار قرار أممي بإرسال قوات إلى كوريا الجنوبية، بسبب مقاطعة موسكو آنذاك لجلسات مجلس الأمن، وبالتالي مرور القرار دون تعرضه للفيتو. وهكذا استطاعت واشنطن أن تطارد قوات "كيم إيل سونغ" وتعيدها إلى الشطر الشمالي وتحرر الجنوب من قبضتها، رغم المساعدات التي جاءتها من موسكو، ورغم دخول الصين الحرب إلى جانبها. المهم أن الحرب الكورية انتهت إلى حالة لا غالب ولا مغلوب، وصولا إلى يوم 27 تموز (يوليو) 1953 الذي تم فيه إعلان الهدنة عبر اتفاق عقد في قرية "بانمونجوم" التي عادت اليوم إلى الأضواء. وهذه القرية التي باتت تعرف مذاك بقرية الهدنة، هي قرية مهجورة واقعة على الحدود المشتركة بين الكوريتين البالغ طولها 250 كيلومترا، حيث لا يوجد فيها سوى المبنى الأزرق الذي شهد توقيع اتفاقية الهدنة، ومكتب للصليب الأحمر الدولي به خط الاتصال الساخن بين الكوريتين، علما أن هذا المكتب أغلقته بيونجيانج في شباط (فبراير) 2016 على إثر قيامها بإغلاق مجمع كايسونج الصناعي الحدودي قبل أن يعاد فتح المكتب في شباط (فبراير) 2018. وأخيرا اتفقت الكوريتان والقيادة الأمريكية لقوات الأمم المتحدة المرابطة في الشطر الجنوبي على تدابير لإزالة الأسلحة النارية ومراكز الحراسة والمراقبة في بانمونجوم، إضافة إلى وقف المناورات العسكرية على طول الحدود ابتداء من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، علاوة على التخلص من 11 موقعا عسكريا حدوديا كمقدمة لإزالة كل شبيهاتها مستقبلا، وتقليص عدد الجنود المتمركزين في بانمونجوم إلى 35 جنديا على كل جانب، وتبادل المعلومات حول معدات المراقبة الخاصة بالبلدين، والسماح للسائحين من شطري كوريا والدول الأجنبية بالتحرك بحرية داخل المنطقة الأمنية المشتركة بغية تحويل المنطقة الحدودية إلى بقعة سلام ومصالحة. هذه الخطوات بطبيعة الحال هي مجرد خطوات رمزية، مثلما قيل، لكنها من جهة أخرى مهمة وغير مسبوقة وتصلح كدليل على أن محاولات إحلال السلام في شبه الجزيرة الكورية ماضية على قدم وساق، وأن ما تم الاتفاق عليه في القمم الثلاث بين رئيس الشطر الجنوبي "مون جاي إن" وزعيم الشطر الشمالي "كيم جونج أون"، ولا سيما القمة التي عقدت بينهما في أيلول (سبتمبر) المنصرم، جار تنفيذه، بدليل أن خطوط الاتصال عادت للعمل بين البلدين كما تم البدء بتنظيف المنطقة الأمنية المشتركة من الألغام. أما ما يعرقل الإعلان عن انتهاء حالة الحرب بين البلدين رسميا فهو عدم موافقة بيونجيانج حتى الآن على نزع سلاحها النووي بصورة كاملة ووضع معايير للتأكد من ذلك. ويعمل الرئيس "مون جاي إن" دون كلل على إقناع نظيره الشمالي بذلك مبديا كثيرا من الوعود والالتزامات والإغراءات والتنازلات. ومن صور التنازلات التي قدمها عدم اشتراطه على عقد أي من لقاءات القمة الكورية في سيئول. وبعبارة أخرى، قبوله الذهاب بنفسه إلى عاصمة الشطر الشمالي لعلمه المسبق أن نظيره الديكتاتور"كيم جونج أون" متحفظ على زيارة سيئول لأسباب أيديولوجية وأمنية أو ربما للإيحاء أنه الزعيم الذي يسعى الآخرون لخطب وده. ومن الخطوات الجريئة التي أقدمت عليها حكومة "مون جاي إن" بالتعاون مع الحليف الأمريكي، إيقاف المناورات العسكرية الدورية المشتركة بين قوات بلديهما، وذلك من باب تجنب استفزاز كوريا الشمالية والإبقاء على زخم ما تمخضت عنه القمة الكورية الشمالية ــ الأمريكية في سنغافورة في حزيران (يونيو) الماضي. أما الخطوة الأكثر إثارة في هذا السياق فهي موافقة بيونجيانج على إرسال وزير دفاعها "نو كوان شول" قريبا إلى واشنطن للاجتماع بنظيريه الكوري الجنوبي والأمريكي لبحث عديد من المسائل العسكرية الشائكة وعلى رأسها نزع الأسلحة النووية. والحقيقة أن "كيم جونج أون" ربما لديه ما يمنعه من التخلص من ترسانته النووية أو هناك من يحرضه ضد الإقدام على ذلك، لذا نراه يشترط إلغاء العقوبات الأممية المفروضة على بلاده مسبقا قبل البحث في مسألة التخلص من قدرات بلاده النووية. وهو يفعل هذا على الرغم من أن العقوبات المفروضة على بلاده يجري خرقها بألف صورة وصورة عن طريق توريد مختلف أنواع السلع من الصين تحديدا. فبكين رغم أنها كثيرا ما رددت التزامها بالعقوبات، فإنها تجد في خرقها صفعة للأمريكيين في الحرب التجارية وغير التجارية الدائرة بين بكين وواشنطن طبقا لعديد من المراقبين.
إنشرها