FINANCIAL TIMES

مسائل لغوية .. المعنى الحقيقي لـ «البيانات الكبيرة»

مسائل لغوية .. المعنى الحقيقي 
لـ «البيانات الكبيرة»

إذا فكرت في كلمة "بيانات" data، ما الصورة التي تخطر على بالك؟ قد يقول معظمنا أجهزة الكمبيوتر، أو الأرقام، أو جداول البيانات. من بعض النواحي، هذا صحيح تماما: يعتمد الاقتصاد الرقمي اليوم اعتمادا كبيرا على البيانات التي يجمعها الكمبيوتر والتي يصفها الاستشاريون غالبا بقولهم إن البيانات اليوم هي النفط الجديد. لكن الأمر الذي نادرا ما يناقش هو مصدر الكلمة، التي لا علاقة لها بالأرقام، ناهيك عن أجهزة الكمبيوتر. بدلا من ذلك، يأتي المقطعان في كلمة data من الفعل اللاتيني to give "يمنح"، معبرا عن اسم المفعول الذي يُمكن ترجمته بأنه "ذلك الذي يُمنح" that which is given – أو حتى "هدية".
هل هذا مجرد فضول غريب؟ ليس الآن. على الرغم من تطور تعريف البيانات إلى درجة تفوق التعرف عليه، فإن المعنى الأصلي يكشف عن حقيقة أكبر. ما يدفع اقتصادنا الإلكتروني الحديث ليس مجرد "بايتات" وأرقام، ولكن ـ مثلما كتبت من قبل ـ نظام ضخم من التبادلات. يستند وادي السيليكون جزئيا إلى صفقات، غالبا ما يتم تجاهلها، بين مستخدمي الإنترنت وشركات التكنولوجيا يتم فيها مقايضة المعلومات الشخصية بالخدمات.
في الوقت الحالي، من الأهمية بمكان التفكير في المعنى الأصلي للبيانات، لأن كثيرين بدأوا يشعرون بأن شروط هذا التبادل (أو المقايضة) غير عادلة بالنسبة للمستهلكين، وأن مستخدمي الإنترنت لا يفهمون بشكل صحيح عواقب تلك المعلومات الـ "هدايا". أو كما لاحظت خديجة فيريمان، وهي باحثة في معهد أبحاث البيانات والمجتمع في نيويورك، في خطاب ألقته العام الماضي حول الطبيعة المتشابكة لهذه التبادلات "عندما نفكر في البيانات بهذه الطريقة، كهدية، يمكننا فهم الديناميكيات الاجتماعية الفاعلة في مشاريع جمع البيانات اليوم".
من المفيد أن يدرك المسؤولون التنفيذيون في وادي السيليكون هذه النقطة، كما ينبغي ذلك لبقيتنا أيضا. علم أصول الكلمات يستطيع تقديم منظور جديد مذهل لكثير من العبارات التي نتبادلها في مجال الأعمال والشركات. يمكن لتاريخ اللغة أن يضيء في كثير من الأحيان السياق الثقافي وراء الممارسات التي نأخذها باعتبارها أمورا مسلما بها.
خذ كلمة "تكنولوجيا" tech، كما هي الحال في Big Tech أو شركات التكنولوجيا الكبيرة. مثلها مثل البيانات، ترتبط هذه الكلمة عادة بالحوسبة والاقتصاد الرقمي، لكن منبعها هو الكلمة اليونانية techne، التي تترجم مهارة، أو فن، أو حرفة (مثل حياكة النسيج)، مركبة مع logos، وهي تعني كلمة. قد يبدو ذلك مفاجئا، لأن أجهزة الكمبيوتر ترتبط غالبا بالخوارزميات المعقدة والعمليات الحسابية. أو ربما لا. هذا الأسبوع، عقدت الرابطة الأمريكية للأنثروبولوجيا مؤتمرها السنوي في سان خوسيه، وكانت شركات التكنولوجيا تستخدم هذا الحدث لتوظيف عدد غير مسبوق من علماء الأنثروبولوجيا الثقافية، بعد أن أدركوا متأخرا أن الحوسبة لا تتعلق فقط بالرياضيات بل بالتفاعلات البشرية أيضا. حتى المبرمجين الذين يستخدمون مهاراتهم لإنشاء لغات حوسبة، يعملون في سياق اجتماعي.
لنتأمل الآن كلمة company بمعنى شركة وcorporation بمعنى مؤسسة. جذر هذه الكلمة الأخيرة يأتي من الكلمة اللاتينية corpus بمعنى (جسم)، في حين أن الأولى جاءت من الكلمة اللاتينية companio بمعنى ("أشخاص" يأكلون معا). لا ينسجم ذلك بوضوح مع الطريقة التي نميل إلى الحديث بها عن الشركات اليوم، ولا سيما من حيث الميزانيات العمومية والبيروقراطية. لكن، مرة أخرى، تبرز جذور هذه الكلمات نقطة مهمة: المؤسسة التجارية هي بنية اجتماعية، بقدر ما هي آلة ربح - والرؤساء التنفيذيون يتجاهلون هذا الجانب الإنساني والقبلي ما يعرضهم للخطر. وهذا ينطبق حتى على كلمة bankers بمعنى مصرفيين. هذه الكلمة مأخوذة من banco الإيطالية القديمة التي تعني الطاولة أو المقعد، وتُشير إلى حقيقة أن أصحاب المال كانوا يجتمعون فيما مضى في الساحات لإجراء المعاملات مع بعضهم بعضا على تلك الطاولات، بطريقة ملموسة – قائمة على العلاقات.
كلمة finance بمعنى تمويل نشأت من الكلمة الفرنسية finir، التي تعني "إنهاء". قد يبدو هذا غريبا، بالنظر إلى نزعة المال إلى التنقل السريع حول العالم بسلسلة من المدفوعات المعقدة التي لا تنتهي أبدا. لكن كلمة payment بمعنى "دفعة مالية" لها أصل غير بدهي مماثل، فهي تأتي من الكلمة الفرنسية القديمة paier التي تعني إرضاء.
يكشف هذان الجذران شيئا مثيرا للتفكير: عندما نشأت الأموال لأول مرة كان يُنظر إليها على أنها وسيلة لتحقيق غاية – تحديدا عملية لمرة واحدة مصممة لإبرام صفقة (مثلا، للحصول على أصل) أو للتعويض عن خطأ ما. فقط خلال القرون القليلة الماضية، تحولت الأعمال المالية إلى غاية في حد ذاتها، أي دورة لا تنتهي من التدفقات. أظن أن أحد الأسباب التي تجعل عديدا من غير خبراء المال يميلون إلى عدم الثقة بالمجال المالي هو أننا نفترض في كثير من الأحيان أن هذا المعنى الأصيل للتمويل أكثر جدارة من الناحية الأخلاقية - أي أننا ما زلنا نعتقد أن المال يجب أن يكون وسيلة لتحقيق غاية، وليس جزءا من دورة تعزيز ذاتي.
المثال المفضل لدي في مسائل دراسة أصول الكلمات هو كلمة credit بمعنى ائتمان. قبل عقد من الزمن، عندما أشار خبراء المال إلى الائتمان، كانوا يتحدثون حتما عن أسواق القروض والسندات، جنبا إلى جنب مع الخوارزميات والهندسة المالية. لكن، كما أشرت من قبل، فإن الأصل اللاتيني هو credere بمعنى يصدق أو يثق. قبل الأزمة المالية عام 2008 تم تجاهل هذا الجذر على نطاق واسع، بما أنه بدا مجرد فضول تاريخي غريب. لكن منذ ذلك الحين اكتشف خبراء المال أن التمويل بلا إيمان لا ينجح.
في بعض الأحيان يكون تاريخ كلماتنا غير ذي صلة، لكنه في الغالب ليس كذلك. لذا في المرة المقبلة التي تسمع فيها مستشارا يتحدث عن البيانات الكبيرة، اسأل كيف يمكن أن يبدو الحديث لو أنه قال "الهدايا الكبيرة" بدلا من ذلك.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES