FINANCIAL TIMES

فشل العقوبات على روسيا يكشف استحالة فرض «العزلة الدولية»

فشل العقوبات على روسيا يكشف استحالة فرض «العزلة الدولية»

فشل العقوبات على روسيا يكشف استحالة فرض «العزلة الدولية»

فشل العقوبات على روسيا يكشف استحالة فرض «العزلة الدولية»

روسيا تطلق صواريخ سرعتها تناهز كيلومترين في الثانية، وتستطيع ضرب أهداف تطير بضعف سرعتها. كما تستطيع استهداف 80 طائرة مختلفة للعدو، وطائرات مسيّرة وصواريخ كروز في الوقت نفسه من على بعد 400 كيلومتر، علاوة على اكتشاف طائرات الشبح الحربية، التي كانت في السابق قادرة على تجنُّب اكتشافها.
يمكن القول إن الجانب الأكثر خطورة لنظام الدفاع الصاروخي الروسي تريامف إس 400، هو الدمار والأضرار الذي يتسبب فيها للقوة والسمعة التي تحيط ببرنامج العقوبات المفروضة على موسكو من قبل واشنطن، والجهود المتضافرة التي تبذلها الولايات المتحدة لعزل روسيا عن بقية دول العالم.
على الرغم من العقوبات التي فرضت على صناعة الدفاع في روسيا لإيقاف صادراتها المربحة، وفرض حظر على البلدان الأخرى التي تشتري نظام الدفاع الصاروخي إس 400 بالتحديد، تجري روسيا عمليات تجارية جامحة، فيما يعتبره معظم الخبراء أنه نظام الدفاع الجوي الأكثر تقدما في العالم.
على مدى العام الماضي، وقعت كل من الهند وتركيا على صفقات لشراء أنظمة الدفاع الصاروخية إس 400، وتسلمت الصين أولى شحناتها، وبدأت دول من الشرق الأوسط والخليج في إجراء مفاوضات حول صفقات للحصول على تلك الأنظمة الدفاعية المحظورة.
إذا كان الهدف من تصميم نظام العقوبات في الغرب، الذي تم إدخاله لأول مرة في آذار (مارس) من عام 2014، هو عزل موسكو عن بقية بلدان العالم وعزل صناعاتها المهمة، فإن قاذفات الصواريخ المحمولة على شاحنات، ما هي إلا مثال على قطعة يبلغ سعرها 400 مليون دولار، التي تسببت في فشل تلك الجهود.
يقول أندري فرولوف، المحرر المسؤول في مجلة آرمز إكسبورت Arms Export الروسية: "ليس هنالك أدنى شك في مسألة عزل روسيا. حتى إنه لا أحد يتحدث عن الموضوع. هنالك حالات اختراق كبيرة بفضل الصين والهند، حيث الرسالة هي أن روسيا لا تزال منفتحة أمام ممارسة الأعمال".
منذ عام 2014، وقيام روسيا بضم جزيرة القرم، سعى نظام العقوبات الذي تقوده الولايات المتحدة والمدعوم من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما من الحلفاء الغربيين إلى عزل موسكو، من خلال الحد من قدرتها على الحصول على التمويل الخارجي والتجارة والدعم الدبلوماسي في محاولة لفرض تغيير في النهج السياسي الذي تتبعه إدارة الرئيس فلاديمير بوتين.
بعد أن استهدفت في البداية رجال السياسة الروس، وقطاع الطاقة الهائل في البلاد والمجمع العسكري الصناعي، أصبحت العقوبات أكثر استهدافا من أي وقت مضى لأفراد وشركات بعينها.
الادعاءات ضد موسكو بتدخلها في الانتخابات الأمريكية التي جرت في عام 2016، وسماحها باستخدام الأسلحة الكيميائية في سورية، وتنفيذ محاولة قتل الجاسوس السابق سيرجي سكريبال في المملكة المتحدة هذا الربيع، كل ذلك أدى إلى فرض قيود أكثر صرامة.
إذا كان الهدف من التدابير المتخذة هو جعل موسكو دولة منبوذة على الصعيد الدولي، ليس لها أصدقاء وسامة، فإن هذه التدابير قاصرة عن تحقيق الهدف منها.
الصداقة الأوثق من أي وقت مضى مع الصين قدمت لموسكو التمويل الدولي وفرص التجارة الجديدة والثقل الدبلوماسي. كذلك تمكنت موسكو من تعميق علاقاتها مع مجموعة من البلدان في الشرق الأوسط، بدءا من تركيا ووصولا إلى إسرائيل، ومعظم الدول في الخليج بما في ذلك إيران، ما أدى إلى توسيع نطاق نفوذها في المنطقة، في الوقت الذي تعاني فيه أمريكا التردد.
في الوقت نفسه، فإن التدفق المطرد لقادة الاتحاد الأوروبي الذين يزورون الكرملين، والاستثمارات الأجنبية المباشرة من قبل الشركات الأوروبية، واستمرار الطلب على صادرات روسيا من النفط والغاز، كل ذلك ينفي اللغة الطنانة الحربية الصادرة عن بروكسل.
يقول أندري بيستريتسكي، رئيس مجلس إدارة نادي فالداي للحوار، وهو مركز فكري روسي: "العزلة أمر مستحيل، هذا واضح. كان ذلك ممكنا قبل 30 عاما، في الحقبة السوفياتية. حينها، كان هنالك كتلتان فقط، لكن الآن، هنالك كثير من الخيارات".
عندما يتعلق الأمر بعزل روسيا، ليس هنالك تطابق بين الواقع واللغة الطنانة. في الوقت الذي تسببت فيه صفقات الدفاع الرئيسة، مثل اتفاقيات أنظمة الدفاع إس 400 في إثارة غضب واشنطن، واصلت جميع الاقتصادات الكبرى في الاتحاد الأوروبي، بكل هدوء، ممارسة الأعمال مع جارتها الشرقية.
برلين، من الداعمين الرئيسين للعقوبات المرتبطة بضم شبه جزيرة القرم، تدعم بقوة برنامج نورد ستريم 2، وهو خط أنابيب غاز روسي يجري تنفيذه تحت بحر البلطيق، يقول المعارضون له إنه لن يفعل سوى زيادة نفوذ موسكو وتأثيرها في إمدادات الطاقة في أوروبا.
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الضيف المميز لدى بوتين في المنتدى الاقتصادي السنوي الذي أقيم في سان بطرسبرج في وقت سابق من هذا العام، وقال لمضيفه: "عزيزي فلاديمير، دعنا نخض لعبة تعاونية".
بعد ذلك مباشرة، اشترت شركة توتال، شركة الطاقة الفرنسية، حصة 10 في المائة في مشروع أركتيك 2 للغاز الطبيعي المسال في روسيا بقيمة 25.5 مليار دولار، وافتتحت الشهر الماضي مصنعا جديدا لخلط النفط بالقرب من موسكو.
المملكة المتحدة هي من أكثر البلدان تشددا تجاه موسكو، لكن شركة الطاقة البريطانية بريتش بتروليوم هي واحدة من أكبر جهات الاستثمار الأجنبية في روسيا، من خلال حصتها التي تصل إلى 19.75 في المائة في شركة روسنفت النفطية الروسية، الخاضعة لسيطرة الكرملين، التي تخضع بدورها للعقوبات الغربية.
يقول أحد كبار التنفيذيين في إحدى شركات الطاقة الدولية الرئيسة: "انظروا إلى شركة توتال، وهي تكدس أكبر كمية تستطيع الاحتفاظ بها. انظروا إلى شركة بريتش بتروليوم. لا يمكننا عزل بلد كبير ومهم مثل روسيا، لم يكن الأمر لينجح أبدا".
في مؤتمر عقد في فيرونا الشهر الماضي، صرح ماتيو سالفيني نائب رئيس الوزراء الإيطالي أمام المندوبين الروس بأنهم "صناع سلام"، وحث الشركات الإيطالية على العثور على طرق للالتفاف حول العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي.
وقال: "في عام 2018، نحن لسنا بحاجة إلى عقوبات، ولسنا بحاجة إلى قوات. نحن بحاجة إلى الحوار، وبحاجة إلى الصداقة. أريد أن أتقدم بالشكر إلى رجال الأعمال الإيطاليين؛ لأنهم يقاومون (العقوبات) ولأنهم اتخذوا المبادرة في هذا الأمر".
يعترف الدبلوماسيون الغربيون في موسكو، في محافلهم الخاصة، أن العقوبات قد فشلت في تحقيق التأثير الذي كانت ترغب فيه كثير من حكوماتهم.
يلقي البعض باللوم على التنفيذ التدريجي الذي سمح إلى حد بعيد لاقتصاد روسيا، الذي تصل قيمته إلى 1.6 تريليون دولار، بالتكيف بشكل بطيء. يقول آخرون إن الانتعاش في أسعار السلع الأساسية والنفط منذ عام 2016 وفر للكرملين كمية كافية من النقدية للتعويض عن ذلك الأثر.
من جهة أخرى، يدعي آخرون أن كثيرا من البلدان كانت تفتقر إلى العزم لمتابعة التدابير المتخذة، خوفا من الأضرار التي قد تلحق بشركاتها.
تعمل شركة ديملر الألمانية على بناء مصنع بالقرب من موسكو سيبدأ مطلع العام المقبل في إنتاج سيارات صالون من نوع مرسيدس بنز فئة إي. شركة بوينج عملاقة الفضاء الأمريكية افتتحت مصنع إنتاج وسط روسيا هذا الصيف لتصنيع مكونات التيتانيوم. تشتري أوروبا مزيدا من الغاز من روسيا بشكل أكبر من أي وقت مضى في تاريخها.
كل تلك الأنشطة تشير إلى أنه بالنسبة للتنفيذيين في الشركات، فإن روسيا كبيرة ومربحة فوق الحد على نحوٍ لا يمكن معه للسياسة أن تشكل عائقا في طريق نجاحها.
قال بوب دادلي، الرئيس التنفيذي لشركة بريتش بتروليوم، في مؤتمر فيرونا: "هنالك له أهمية حيوية في دور رجال الأعمال وصناع السياسة المتمثل في مواصلة الحوار. ما هو أكثر أهمية من ذلك، أن هنالك أهمية عظيمة تتمتع بها الشركات من حيث تقريب العالم بشكل أوثق. هنالك كثير من القوى التي تحاول إبعادنا عن بعضنا بعضاً".
منذ أن فُرضت العقوبات للمرة الأولى على شركة روسنفت عام 2014، حققت حصة بريتش بتروليوم في الشركة توزيعات أرباح بلغت 90.7 مليار روبل (1.3 مليار دولار)، وفقا لمعلومات من الموقع الإلكتروني للشركة الروسية.
أضاف دادلي قائلا: "من الصعب جدا أن تبقى شركة في السوق لفترة زمنية طويلة من خلال الوقوف إلى جانب ضد جانب آخر. نحن نحاول بناء الجسور".
مقارنة بما حصل عام 2014، ضاعفت شركة روسنفت كمية النفط الذي تنتجه من مشاريع مشتركة مع شركات أجنبية ليصل إنتاجها إلى 1.4 مليون برميل يوميا، بفضل شراكات مع شركات هندية وفيتنامية ونرويجية.
قال إيجور سيتشين، الرئيس التنفيذي لشركة روسنفت، المحظور من دخول الولايات المتحدة، في فيرونا: "أنا مقتنع أن العلاقات المفيدة للأطراف المشتركة ستستمر في التطور، في حين أن من المفارقة أن أي تصعيد جديد للعقوبات المفروضة، سيعمل على فرض قيود على الولايات المتحدة نفسها".
استخدم الكرملين بشكل مكثف مقولة تقول إن استخدام واشنطن للعقوبات الدولية ضد موسكو سيرغم البلدان الأخرى على أن تنأى بنفسها عن الولايات المتحدة.
يقول أحد الدبلوماسيين الآسيويين في موسكو رفض أن يُذكر اسمه: "من الواضح تماما من خلال المكان الذي نحن فيه الآن أنه من خلال محاولة عزل روسيا، فإن أمريكا تؤدي عملا جيدا من حيث عزل نفسها. حتى الأوروبيين يقومون بتطوير سياسة مستقلة خاصة بهم نحو روسيا".
في الوقت الذي كانت فيه العقوبات الغربية تسعى إلى تضييق الخناق على الخيارات الدبلوماسية المتاحة أمام بوتين، إلا أنه أخذ يضرب بقوة نحو اتجاهات جديدة.
تدخُّل موسكو عام 2015 في سورية حوّل مسار الحرب ليصبح في مصلحة نظام بشار الأسد، جنبا إلى جنب مع تعزيز التجارة والاتصال الدبلوماسي مع تركيا، وتجديد روابط تاريخية مع إسرائيل وإيران، ما جعل بوتين وسيطا للقوة في الشرق الأوسط.
على أن علاقات روسيا مع الصين ودول الخليج العربي هي التي شهدت تغييرات عجيبة للغاية، وأكثرها فعالية في حقبة العقوبات. استنادا إلى الصداقة الشخصية التي تجمع بين بوتين والرئيس الصيني تشي جين بينج، تعتمد روسيا على بكين وعواصم أخرى في الشرق الأوسط، في أكثر من مجرد بيع أنظمة الدفاع إس 400.
بتعزيز صفقات توريد النفط الجديدة وشحنات الزراعة والدفاع، استأثرت التجارة مع الصين بما 15.5 في المائة من إجمالي المبيعات الروسية في العام الماضي، بارتفاع من 10.6 في المائة عام 2013. في الوقت نفسه، انخفضت حصة الاتحاد الأوروبي من 49.6 في المائة إلى 43.8 في المائة.
في أيلول (سبتمبر) الماضي، زار تشي بوتين مدينة فلاديفوستوك في روسيا، وخلال تناول الكافيار والبانكيك المصنوع يدويا، شربا نخب صداقتهما التي قالا إنها ستقف في وجه النزعة الحمائية الأمريكية.
وبينما كان يتحدث القائدان، شاركت جيوشهما في تدريبات عسكرية مشتركة تشتمل على 300 ألف جندي، وهي أكبر مناورات في روسيا منذ عام 1981.
هناك صفقات تنوي دول خليجية إبرامها لشراء النظام الدفاعي إس 400 كجزء من محاولة تجارية ودبلوماسية أوسع نطاقا.
على صعيد موازٍ، ضمت موسكو والرياض صفوفهما عام 2016 لتنظيم إنتاج النفط ورفع أسعار الخام في السوق العالمية.
هناك حرص في الصناعة النفطية الخليجية على اتباع نهج شركة توتال وشراء حصص بنسب متفاوتة في مشروع الغاز نفسه، وهي تجري أيضا محادثات لتأسيس مصنع للبتروكيماويات مع شركة سايبور الروسية.
ويجري إبرام صفقات لمصلحة صناديق الثروة السيادية في الخليج، بحث روسيا على الانضمام إلى صندوق تطوير مشترك بينها وبين الصين.
ينظر بعض المحللين إلى صداقات روسيا الجديدة على أنها مجرد تزويق، ويتساءلون عما إذا كانت نتيجة لاستراتيجية طويلة الأجل، أم أنها تدافع مستميت من قبل الكرملين ليبين للغرب أن روسيا لا يزال لديها أصدقاء.
يقول أحد الدبلوماسيين الغربيين في موسكو إنه على الرغم من أن حالة عدم الثقة التاريخية بين روسيا والصين، من شأنها أن تعني أن البلدين لن يتمكنا أبدا من بناء تحالف جغرافي سياسي كامل، "إلا أنه من الأسهل لكليهما اكتساب بعض الميزات الصغيرة من بعضهما بعضاً، وتشكيل قوة مضادة للولايات المتحدة".
يقول آركادي دفوركوفيتش، نائب رئيس الوزراء في روسيا حتى أيار (مايو) من هذا العام، ردا على سؤال حول علاقة موسكو مع الصين: "إنها مزيج من البرجماتية والاستراتيجية. من الواضح أنه أمر منطقي الآن بالنسبة لروسيا، نظرا للسياق الغربي، لكنه على المدى الأطول أجلا، هنالك علاقة نريد الحفاظ على وجودها في المستقبل. هذان البلَدان هما أكثر سوقين مهمتين للنمو في العالم".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES