السياسية

ألمانيا.. قشة «الهجرة» التي قصمت ظهر ميركل

ألمانيا.. قشة «الهجرة» التي قصمت ظهر ميركل

سيحتفظ التاريخ السياسي المعاصر للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بمكانة جدلية حول هذه المرأة التي استطاعت أن تتولى قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي طيلة 18 عاما؛ أمضت منها خمس سنوات في المعارضة، و13 عاما في تدبير شؤون القوة الاقتصادية الأولى في الاتحاد الأوروبي.
لم ينل التعب وكبر السن من ابنة هامبورج البالغة من العمر 64 ربيعا، بقدر ما أنهكتها الضربات المتوالية من الخصوم والأصدقاء على حد سواء، جراء الأزمات المتلاحقة داخل ائتلافها الحكومي، والانتقادات المستمرة لبعض السياسات التي تبنتها المستشارة منذ 2015.

بين الأفول والصعود

أعلنت ميركل أواخر الشهر الماضي قرارها مغادرة رئاسة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي نهاية العام الجاري، ومنصب المستشارية مع انتهاء ولايتها الحالية في سنة 2021.
جاء هذا القرار الحاسم بعد طول انتظار، على غرار باقي قرارات السيدة ميركل، عقب توالي النكسات الانتخابية لحزبها في عديد من المقاطعات، وكان آخرها مقاطعة هيسن. علاوة على استمرار مخلفات الانسداد السياسي الذي رافق مفاوضات تشكيل حكومة ولايتها الرابعة، في تعكير أجواء اشتغال ميركل داخل الحزب والائتلاف الحكومي.
في الوقت الذي تتراجع فيه أسهم ابنة القس؛ التي نشأت خلف الستار الحديدي، وعاشت التقشف في ألمانيا الشرقية، في الساحة السياسية الألمانية جراء سياساتها بخصوص الهجرة واللاجئين. وما ترتب عن ذلك من مشكلات داخلية أمنية واجتماعية واقتصادية، غيرت عديدا من الأمور في الواقع، حيث أصبح المهاجرون يثيرون القلق، وتزايدت المخاوف حيال الإسلام والاعتداءات، وتحول قسم من قاعدتها الناخبة المحافظة إلى تشكيل حزب يميني متطرف هو "البديل لألمانيا".
رغم تأثير الأزمة الداخلية في أداء ميركل في الجبهة الخارجية، فإنها استطاعت أن ترفع من أسهمها، بعدما تحولت في عيون كل اللاجئين والمضطهدين إلى "ماما ميركل". وفي نظر باقي العالم إلى "زعيمة العالم الحر"، إثر الزلزال الذي أحدثه وصول دونالد ترمب إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.
تعد قرارات الهجرة التي تدافع عنها ميركل إيمانا منها بـ "القيم المسحية"، بمنزلة الضربة التي أضعفتها، وعجلت ببداية نهايتها في الجبهتين الداخلية والأوروبية. حيث تحفظ حلفاؤها السياسيون على مسايرتها في الخط، فيما رفضت بلدان الاتحاد مشاركتها أعباء المهاجرين ردا على رفض ألمانيا مشاركة هذه الدول أعباء الديون بعد الأزمة المالية العالمية.

من الفيزياء إلى السياسة

استغلت ميركل سنة 2000 فضيحة مالية داخل حزبها لإبعاد المستشار هورست كولر وباقي خصومها من الذكور الواحد تلو الآخر، بعدما أساءوا تقدير قوة تلك المرأة المترددة التي لم تدرس السياسة في مدرجات الجامعة، لكنها تعلمتها في واقع الممارسة اليومية.
لقد نجحت عالمة الفيزياء في فرض أسلوبها الخارج عن الأنماط المعروفة، إذ بدت لوقت طويل كأنها لا تكترث لمقام منصبها، ولا سيما مع قلة اهتمامها بمظهرها وعدم إتقانها فن الخطابة. كما أنها تفضل العيش في شقة عادية، غير مزودة بوسائل الترف في وسط برلين، مع زوجها الثاني العالم يواكيم ساور الذي يفضل البقاء بعيدا عن الحياة العامة.
احتفاظ ميركل بسلوكها ومظهرها العاديين، لدرجة أن الألمان يشاهدونها ترتاد أسواقا ممتازة بأسعار متدنية قريبة من منزلها في برلين، بقي لفترة طويلة ضمانة لشعبيتها لدى الناخبين.
واستفادت على المستوى السياسي من الازدهار الذي تحقق في البلاد جراء الإصلاحات غير الشعبية التي قام بها سلفها الاشتراكي الديمقراطي جيرهارد شرودر "1998-2005"، لتقيم عليها بأسلوبها الفريد أمجادا؛ للأوروبيين عموما والألمان على وجه التحديد، يصعب على أي سياسي أن يكررها في المستقبل.
بلغ الأمر بعالم الاجتماع أولريش بيك حد تركيب وصناعة مفهوم للدلالة على هذا، حيث أطلق اسم "ميركيافيل" لوصف النهج الذي تتبعه ميركل، وهي كلمة مركبة من اسم المستشارة والسياسي والمفكر الإيطالي مكيافيلي، لوصف أسلوبها في الحكم القائم على مزيج من التريث والحزم.

ألمانيا بعد ميركل

كان طرح هذا السؤال صعبا قبل ثلاث سنوات فقط، لكن الأمر اليوم أضحى في حكم المستقبل القريب، بعدما تأكد أن ترشح ميركل في الانتخابات الأخيرة جاء بعد تردد طويل، وأنها كانت تبحث نهاية لحكمها بعد المتاعب التي واجهتها في الأعوام الأخيرة.
بات مدار الحديث داخل ألمانيا ولدى المهتمين في العواصم الأوروبية عن الاسم المرشح لخلافة هذه المرأة في رئاسة الحزب. لكن المفاجأة أو الصدمة ستكون قوية حين نعلم أن المرشح الأوفر حظا حتى اللحظة هو المليونير فريدريك ميرتس "62 عاما" الذي غادر الحياة السياسية قبل 16 سنة بسبب ميركل، بعدما وصل إلى رئيس الكتلة المحافظة في البرلمان الألماني.
عاد الرجل، غير المعروف خارج ألمانيا، إلى الحياة السياسية بعد قرار منافسه الرحيل، وهو من الأسماء التي تطالب بالعودة إلى خط محافظ تقليدي، وبرر ترشيحه بضرورة تحقيق انطلاقة جديدة وتجديد الحزب.
تفيد استطلاعات الرأي تأكيد الألمان العودة المبكرة لميرتس إلى السياسة، التي تزيد من حظوظه للظفر بقيادة الحزب. غير أن هذا التأييد لن يكون له وزن؛ إذ إن الرئيس الجديد لحزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" لن يعينه الناخبون؛ بل الأمر بيد ألف مندوب من الحزب.
سيتنافس على خلافة ميركل إلى جانب ميرتس كل من السيدة أنجريت كرامب كارنباور الأمينة العامة للحزب المقربة من المستشارة، والشاب يانس سبان وزير الصحة في الحكومة الحالية، ومن أشد منتقدي اختيارات وتوجهات ميركل. وسيتم اختيار أحد هؤلاء الثلاثة لخلافة ميركل في المؤتمر المقبل للحزب الذي سيكون فرصة للمندوبين لإعادة التموقع في المشهد السياسي الألماني، فإما السير على درب ميركل وبالتالي اختيار السيدة كارنباور أو الانعطاف نحو اليمين واختيار أحد المرشحين الآخرين.
تعد مغادرة ميركل العمل السياسي في ألمانيا وأوروبا، خسارة لآخر رمز أوروبي من الجيل القديم، من اليمين التقليدي، الذي يحمل رسالة اجتماعية قوامها التفاهم والحوار، وضرورة العمل على مساعدة الشعوب التي تعاني مشكلات على مستوى العالم.
مهما حاول الزعماء الأوروبيون الآن ملء الفراغ الذي سيتركه رحيل ميركل فلن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا، فالرهان كان معقودا على زعيم فرنسا، لكن تبين أن من يحكمها رئيس ضعيف يفتقر إلى رؤية تاريخية تتجاوز الحسابات الضيقة لساسة اليوم.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية