Author

«المدارس الموثقة» المستقلة .. والخروج من الصندوق

|

في كثير من مجالات الحياة المختلفة، ومع مرور الزمن، تتراكم الأعباء، وتتعقد الأنظمة المتبعة وإجراءات العمل، وتتشابك وسائل ومسارات التنفيذ، فتتقلص بذلك رشاقة وفاعلية وكفاءة الأداء، وتضيق القدرة على الاستجابة للمتغيرات، وتبرز الحاجة إلى "الخروج من الصندوق"، والبحث عن "أفكار جديدة". وقد طرحنا في مقال سابق، أن هناك أربعة توجهات رئيسة لمثل هذه الأفكار: توجه يسعى إلى "خفض" عوامل إعاقة العمل وترهل الأداء؛ وآخر يعمل على "زيادة" عوامل تحفيز العمل وتفعيل الأداء؛ وثالث يهتم "باستبدال" بعض المعطيات والوسائل القائمة بما هو أفضل منها؛ ثم رابع يتوق إلى البحث في" آفاق جديدة للتطوير المستقبلي"، وتعزيز الاستجابة للمتغيرات، وما تفرزه من متطلبات.
يشهد مجال "التعليم"، في أنحاء مختلفة، وعلى مدى عقود سابقة، محاولات "للخروج من الصندوق". وبين أبرز هذه المحاولات العمل على إنشاء "مدارس جديدة"، تستند إلى أفكار جديدة غير تقليدية، تؤدي إلى مخرجات تعليمية أفضل. وقد وضعت لمثل هذه المدارس، في مختلف أنحاء العالم، أسماء عدة مثل: "المدارس غير العادية"؛ أو "المدارس العامة المستقلة"؛ أو "مدارس الاختيار"، حيث إن التسجيل فيها اختياري، يأتي بالمفاضلة بينها وبين المدارس التقليدية؛ ولعل الاسم الذي بات أكثر انتشارا، في الوقت الحاضر، هو "المدارس الموثقة". وقد وصفت هذه المدارس بذلك لأن كلا منها موثقة "بميثاق" خاص بها تضعه لنفسها، وتعتمده رسميا من الجهات التعليمية الرسمية في البلد الذي تنتمي إليه، وتتجه كثير من مثل هذه الجهات إلى المرونة في تقبل "تعددية" الأفكار التعليمية الجديدة، والسعي نحو تحقيق نتائج أفضل.
تنتشر هذه المدارس في بلدان عديدة، بينها الولايات المتحدة؛ وتشيلي؛ وألمانيا وبريطانيا؛ والسويد؛ والنرويج؛ وهونج كونج؛ وأستراليا؛ وغيرها. وقد بلغ عدد هذه المدارس في الولايات المتحدة وحدها عام 2017، 6900 مدرسة في 42 ولاية من الولايات الـ50، وبلغ عدد الطلاب والطالبات في هذه المدارس 3.1 مليون، وتتجه إلى مزيد من التوسع، نظرا إلى زيادة إقبال الأسر على تسجيل أبنائهم وبناتهم فيها، وابتعادهم عن التسجيل في المدارس التقليدية.
تتمتع "المدارس الموثقة" بالاستقلال والتحرر من الأنظمة والتشريعات التي تحكم "المدارس الرسمية" الحكومية، مثل التشريعات الإدارية والمالية، وأنظمة المناطق التعليمية، والمناهج الدراسية المعتادة، وأساليب التقييم، وغير ذلك. وفي ذلك "خفض" لعوامل قد تكون فيها إعاقة للعمل التعليمي وترهل في أدائه. وليس لهذه المدارس "ميثاق واحد"، يقيد توجهاتها، بل إن لكل منها "ميثاقا خاصا" بها، فهي تختلف في تركيزها على الموضوعات الرئيسة، مثل: "العلوم، والرياضيات، والتقنية، والأدب، والثقافة العامة، وغير ذلك"؛ وعلى اهتمامها بالمهارات الرئيسة، مثل: "اللغات، والكتابة، والتعامل مع التقنية، والهوايات المختلفة"؛ وعلى الميل نحو "التدريب العملي" في مجالات مختلفة تتمتع بالأهمية في الحياة العملية. وبالطبع، تضع هذه المدارس في "مواثيقها" أسباب في تركيزها على الموضوعات والمهارات والتدريب، مثل الاستجابة لمتطلبات العمل، أو لأنظمة دخول الجامعات، أو لاحتياجات متجددة في المجتمع، أو غير ذلك، ما يستجيب لمتطلبات الحياة المتجددة.
وتختلف "المدارس الموثقة"، إضافة إلى ما سبق، في مدى تبنيها حلول "التحول الرقمي" في مجال التعليم. فبعضها يعتمد "الفضاء السيبراني"؛ أي «الإنترنت» ومعطياتها، في تنفيذ بعض أو كثير من النشاطات التعليمية. وقد أدى ذلك إلى ظهور تعبير "المدارس السيبرانية الموثقة". وكما ذكرنا في مقالات سابقة، فإن استخدام الفضاء السيبراني آخذ في الانتشار على مستوى الجامعات، خصوصا تلك الأكثر تقدما مثل "هارفارد، وستانفورد، ومعهد ماساشوستس التقني، وغيرها".
تعد "المدارس الموثقة" نوعا جديدا من المدارس الحكومية الرسمية، "يتمتع بالاستقلالية"، على الرغم من تلقيه دعما حكوميا، على أساس "عدد الطلاب والطالبات". ويسمح لهذه المدارس عادة بتلقي التبرعات، وفي بعض الأحيان تلقي رسوم من الطلاب، تبعا للحاجة. وقد أطلق ريي بيد الأستاذ الجامعي فكرة هذه المدارس عام 1974، لكنها لم تأخذ طريقها إلى الانتشار إلا بعد أن تبناها ألبرت شانكر رئيس اتحاد المدرسين الأمريكيين عام 1988. وكانت ولاية مينيسوتا أول ولاية تضع نظاما لاعتماد هذه المدارس، أعقبتها ولاية كاليفورنيا، ثم 40 ولاية أمريكية أخرى، إضافة إلى انتشارها حول العالم. ويتنافس الطلاب حاليا على دخول هذه المدارس بدلا من المدارس التقليدية، ويستخدم أسلوب الاختيار "بالقرعة" في كثير من الأحيان لهذه الغاية.
وهكذا نجد أن "المدارس الموثقة" تحاول "إخراج التعليم التقليدي من الصندوق"، وأن الأفكار الأربعة سابقة الذكر كانت بمنزلة طريق إلى ذلك. فاستقلالية هذه المدارس "حدت أو أنقصت" الأنظمة والتشريعات غير الضرورية التي كانت تعيق العملية التعليمية وترهق أداءها. ويضاف إلى ذلك، أن هذه الاستقلالية حفزت التفكير الحر نحو بناء أنظمة مستقلة جديدة للمدارس، قادت إلى التوسع والتنافس على الالتحاق بها، وتجنب المدارس التقليدية. كما قامت المدارس الجديدة "باستبدال" المناهج بما هو أفضل منها، عبر التركيز والتوسع في موضوعات ومهارات مختلفة يحتاج إليها المجتمع.
وأخيرا، اتجهت هذه المدارس نحو آفاق جديدة للتطوير المستقبلي، وتعزيز الاستجابة للمتغيرات، معتمدة في ذلك الفضاء السيبراني والتحول الرقمي، الذي يقدم إمكانات مفيدة غير مسبوقة، ليس فقط في مجال التعليم، بل في مختلف المجالات الأخرى.
تعطي "المدارس الموثقة" المستقلة مثالا لمحاولة الخروج من الصندوق في مجال التعليم، وتقديم مخرجات تعليمية أفضل للمجتمع. ولعل ما يميز هذه المدارس ليس فقط استقلاليتها عن المدارس التقليدية وتجنبها لما تعانيه هذه المدارس، بل تعدديتها أيضا. فهي، وإن اتفقت في جزئية الاستقلالية، فلا تتبنى مضمونا واحدا مشتركا فيما بينها. وعلى ذلك، فهي تقدم حلولا شتى لمشاكل مختلفة يحتاج إليها التعليم. وقد وجدت دول عديدة في هذه المدارس فرصة لتطوير التعليم فيها. وعلى ذلك، فإن الخبرة في مثل المدارس باتت دولية وعلى نطاق واسع، والأمل أن نسعى إلى الاستفادة منها في تطوير التعليم في مدارسنا في المستقبل.

إنشرها