ثقافة وفنون

النوم .. الغذاء الرئيس في وليمة الحياة

النوم .. الغذاء الرئيس في وليمة الحياة

ينام الإنسان في المتوسط نحو ثلث حياته "3/1"؛ متى التزم بالمعدل المحدد في ثماني ساعات يوميا، ما قد يجعل الأمر يبدو كأنه مضيعة للوقت، لكنه ليس كذلك مطلقا. فالنوم كما يقول أحد المختصين هو بكل بساطة النسخة البشرية من "الخمول من أجل التكيف"، الذي يسمح للفرد بأن يكون منتجا خلال ساعات النهار.
ربما يكون النوم كسلا انتقائيا، بعدما فُرض على الإنسان أن يريح جسمه مدة تبلغ نحو ثلث عمره. وقد يصل هذا الكسل عند بعض الحيوانات التي تقضي طوال أيام الشتاء في النوم نصف عمرها.
يفهم من لفظ النوم الدخول في حالة "اللاوعي الطبيعية" تتكرر بانتظام كل 24 ساعة، يصل إليها الشخص السليم، وهي حالة تتميز بسكون المخ؛ أي عدم نشاطه، ونعني بالمخ هنا أكثر أجزائه نظاما؛ أي القشرة المخية، وهي مركز الإدراك. وتكون فيها الجفون مطبقة على الدوام، وتلحظ فيها مظاهر أخرى فيسيولوجية.
أثناء هذا النشاط الإنساني الفريد تكون أنسجة الجسم أقل نشاطا، مما تكون عليه في حالة اليقظة، فتبطئ دقات القلب، ويكون التنفس أقل عمقا، وتتخلص المعدة مما فيها ببطء.. ما يفضي في المحصلة إلى انخفاض كبير في الحرارة التي تتولد في كل ساعة من ساعات النوم، قياسا لما ينتجه الجسم في حالة اليقظة؛ فتهبط تقريبا إلى الثلث.
النوم إذن "استسلام لغمرة النسيان الحسي، حيث يهجر المرء العالم الذي ألفه بما فيه من تجارب وذكريات رافقته في مشواره نحو عالم لا يشاركه فيه عقل آدمي آخر". وهو ما عبّر عنه الشاعر حين حديثه عن الأحلام بقوله "للنوم عالمه الخاص، وهو برزخ بين حالتين أطلقنا عليهما خطأ اسمي الموت والحياة".
ليس لنا في النوم حيلة أو خيار، فهو أمر لا بد للإنسان منه، على غرار الأكل والشرب من أجل العيش. بل إن فقدان النوم أشد خطرا على الفرد من فقدان الغذاء. فقد أثبتت تجربة علمية أجريت على صغار الكلاب أنها تموت بعد 20 يوما إن حرمت الطعام، لكنها تترك للنوم وفق هواها، في حين تموت بعد خمسة أيام إن حُرمت من النوم، ولم تُحرم من الطعام.
يتحدد الفارق الفسيولوجي الجوهري بين النوم والموت؛ في كون الأول هو استعادة للقوة والحيوية، في حين إن الثاني؛ أي الموت، هو انعدام هذه القوة. ونحن ننام لنستيقظ، ونستريح في الغفوة لنغذي أجسامنا من أجل العمل في اليقظة. وقد صوّر الشاعر الإنجليزي وليام شكسبير النوم تصويرا فنيا دقيقا حين قال "إنه الصنف الثاني من أصناف الطعام التي تقدمها لنا الطبيعة العظيمة، وإنه الغذاء الرئيسي في وليمة الحياة".
صنع الإنسان عبر التاريخ أساطير حولها إلى ما يشبه حقائق عن النوم، منها ازدياد ساعات النوم بشكل تناسبي مع كبر حجم الكائن الحي، وهذا غير صحيح. فالفيل الإفريقي الضخم لا يتجاوز أربع ساعات في النوم، والغزالان ثلاث ساعات فقط، وتبقى الزرافة أقل الحيوانات نوما؛ بنحو ساعتين متقطعتين على مراحل، ما بين خمس و عشر دقائق، في اليوم. يبقى حيوان الكوالا Koala أكثر الثدييات نوما بإجمالي ساعات يصل إلى 22 ساعة في اليوم، يليه الخفاش البني بنحو 20 ساعة.
تعد فكرة تعويض ساعات النوم الضائعة من الشائعات أيضا، فعادة ما يعمد كثيرون إلى التضحية بالنوم طوال الأسبوع للحاق بجدول العمل أو الاستمتاع بالحياة الاجتماعية، على أمل أن يتولى استدراك ما فاته من النوم خلال عطلة نهاية الأسبوع، وهو ما يؤدي في النهاية إلى الأرق.
علميا، تم إجماع على أن النقص الحاد في النوم يؤدي إلى الوفاة، لكن الاختلاف قائم بشأن تفسير سبب الوفاة، فحتى في حالة الأرق الوراثي، التي تؤدي إلى وفاة المريض بعد ستة إلى 30 شهرا، يكون سبب الوفاة فشل أعضاء متعددة في الجسم عن القيام بوظائفها.
على غرار قلة النوم، يمكن للإكثار منه أن يفضي إلى الوفاة أيضا، فبعض الأبحاث تفيد بأن حاجة المرء إلى أكثر من عشر ساعات من النوم، تعني الإصابة بمتلازمة النوم المضطرب، وهذا يعرض صاحبها لخطر الإصابة بالسكتة الدماغية.
عادة ما يتوهم الفرد أن الهدوء والسكينة من الشروط التي يجب توافرها لتحقيق ممارسة هذا النشاط، وهو اعتقاد غير سليم، لأن الأمر مرتبط بالرتابة أكثر من أي شيء آخر، بمعنى أن الإحساس الطويل بشيء ما إذا لم يزد أو ينقص في شدته، لا ينبه الإنسان مطلقا. لذا في وسع الإنسان أن ينام وسط ضجيج القطار والباخرة ما داما سائرين، حتى إذا وقفا استيقظ النائم من فوره، والتنبيه في هذه الحال هو الانتقال من صوت إلى سكوت. ذات الاهتزاز المتصل الذي يحدث على وتيرة واحدة، ويصبح عديم الأثر في التنبيه، يفسر سبب نوم الطفل في مهده.
نستغرب أحيانا من قدرة البعض منا على ضبط ساعة الاستيقاظ من نومهم، دون الحاجة إلى منبه أو شخص آخر. عملية تقدير الزمن مع فقد الإدراك ليس بالأمر الصعب، بل في غاية السهولة من الناحية العلمية، وهذا مظهر من مظاهر عمل العقل الباطن أو النصف الواعي في أثناء النوم.
يبدو أن مقولة الباحثة الأمريكية بريجيت ستيجار "قد يكون النوم أعقد من مجرد استيقاظ مع شروق الشمس ونوم مع حلول الليل"، قد تتخذ أبعادا أخرى مع كثرة الحديث، الذي بلغ درجة التنظير، عن قوانين قد توضع في المستقبل القريب شبيهة بالقوانين التي سنت في أيامنا لضمان الهواء النقي والطعام الصحي.. وسينص في هذه الشرائع الصحية الجديدة على أن الأصوات لا تقل خطرا على الصحة العامة من الصناعات المضرة بالصحة والمقلقة للراحة، وستعترف وزارات الصحة في المستقبل القريب بما للنوم من أثر كبير في الصحة العامة، كما سيكون إزعاج الأطفال من نومهم في مدن المستقبل من الأعمال التي لا يتصورها العقل، وسيعد الأرق من الظواهر الصحية الخطيرة التي تستوجب العناية.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون