Author

المدن للإنسان وليست للسيارات

|
الذي جرب أن يقضي بعض الوقت مشيا على الأقدام في مدن السعودية، خاصة المدن الرئيسة، سيصل إلى نتيجة مفادها أن المدن وطرقها تم تجهيزها لتكون السيارات هي الأساس للاستخدام، ولا يوجد أي اهتمام بأن يمشي الإنسان في أرجاء هذه الطرقات. ولعل المخطط العمراني جيف سبيك في كتابه مدينة المشي Walkable City وضح أن من أولى البدهيات في تحفيز المشي في الأماكن العامة والطرقات أن يكون هناك مكان آمن ومخصص للمشي، وللأسف هذا الأمر منعدم داخل الأحياء لدينا، حيث إنه لا رصيف يمكن أن يستخدمه الماشي، إنما يجب أن يزاحم السيارات أثناء سيره، وهذا فيه خطر على البالغين فكيف بالأطفال، كما أن هذا الأمر جعل من المستحيل على العائلات وسكان الحي أن يستمتعوا بالمرافق الموجودة في حيهم ويتمكنوا من المضي إليها مشيا على الأقدام بسبب المخاطر المصاحبة لمزاحمة السيارات للمشاة داخل الأحياء، وعدم توافر مكان خاص للمشي، وهذا الأمر يتعاظم عندما تذهب إلى الشوارع المزدحمة بالمحال التجارية وتصبح التجربة مرهقة ومزعجة ولا سيما عند احتياجك إلى عربة أطفال لتنقل فيها طفلك، فتجد أن جزءا من الرصيف تحول إلى درج وجزءا آخر أصبح منخفضا فجأة وعمارة حولت الرصيف إلى مواقف سيارات ستضطر أن تلف من حولها وتدخل على الشارع العام وتعرض نفسك للخطر لتنهي مشوارك، كما أنه لا توجد أي مناسيب منزلقة لإمكانية استخدامها للتنقل، وستحتاج إلى كثير من المشقة والعضلات حتى تتفادى المعوقات، حتى تكره أن تستخدم قدميك لقضاء أي مشوار أو الانتقال من نقطة إلى أخرى، بسبب ضعف بل انعدام البنية التحتية التي تضمن أمان واحترام المشائين. تشير دراسات التخطيط العمراني إلى أن الجهات المسؤولة عن التخطيط العمراني غالبا ما تحرص على أن تصمم الشوارع لتكون مهيأة للسيارات وكافية للمواقف التي تحتاج إليها، لكن أين هو الإنسان من هذه المعادلة؟ وأين اعتبار من لديه القدرة والحافز على المشي لكن لم يجد البنية التحتية المهيأة؟ ولعل أول إشكالية تكمن في تصميم الطرقات التي غلبت أهمية سير السيارات على سير الإنسان، فلا توجد أرصفة ولا تشجير يخفف من حرارة الشمس في جانبي الطريق، ولذلك نجد أن العزوف كبير لدينا عن إنجاز أي مشوار مشيا على الأقدام، فالوضع المثالي أن تكون الطرقات بالتدرج التالي: المبنى ثم الرصيف المخصص للمشي ثم الأشجار ثم مواقف السيارات ثم الشارع، وهنا إشكالية مخلة نلحظها في مدننا وهي وجود الرصيف والأشجار في وسط الشارع بين المسارين، كذلك إن وجد الرصيف في مكانه الصحيح يلاحظ أن الأشجار تزرع في وسطه لتعوق الحركة وتشوه المنظر، والأصل أن تكون في الطرف بين ممر المشاة ومواقف السيارات ليستفيد منها كلا الطرفين، ولا تسبب إعاقة حركية للمشاة، وأحد أهم الأسباب التي تدفع كثيرا إلى المشي بعد وجود المكان الآمن والمناسب هو توافر وسائل النقل العام التي تساعد الشخص على قضاء جزء من وقته ماشيا وآخر في وسائل النقل المختلفة "قطارات، وحافلات" في حال كانت الوجهة بعيدة، وهناك مشاريع ممتازة حاليا وطموحة في هذا المجال، وسنشاهد تجربة مترو الرياض وخطوط النقل العام المساندة لها، وسيكون من المشوق رؤية دراسات عن سلوك السكان في الرياض، وتفاعلهم مع هذا المستجد المهم. وللتحفيز على المشي في الأماكن العامة فوائد كبيرة كما أظهرت الدراسات، من أهمها تحسين مستوى السلامة في الشوارع لقلة الحوادث، كما أن أثرها الصحي مثبت، حيث تنصح جمعية القلب الأمريكية بممارسة المشي على الأقل لمدة 30 دقيقة في اليوم، وذلك لخمسة أيام في الأسبوع "150 دقيقة أسبوعيا"، الذي يعادل الركض لمدة 20 دقيقة في اليوم لثلاثة أيام في الأسبوع، كما أنها تخفف التلوث الحاصل من عوادم السيارات التي جعلت من المدن مكانا موبوءا، كما أن التشجير سيساعد على انتشار الغطاء النباتي الذي ينتج الأكسجين ويقلل من ثاني أكسيد الكربون، كما أنه يلطف الأجواء ويحد من أثر العواصف الترابية، ومن آثاره الاقتصادية قلة الحاجة إلى إصلاح الطرق بشكل مستمر في حال قلة الحاجة إلى استخدام السيارات، كما أنها ستعزز من حركة التطوير العقاري الذي يعتمد على المشاة وهذا سيغير من منظومة مواقع الخدمات مثل السوبر ماركت وغيرها من المحال التي تحتاج إليها الأسرة. الخلاصة، الكثير قد يرى أن الاهتمام بالمشي يعتبر أمرا مبالغا فيه بسبب أن درجات الحرارة عالية، ولن يرغب أحد في المشي تحت لهيب الشمس، لكن إن نظرنا إلى الواقع فسنجد أن أغلب شهور السنة أجواؤها بين المعتدلة والباردة، ولدينا قرابة أربعة أشهر يعتبر فيها الحر شديدا صباحا ومساء من شهر أيار (مايو) إلى شهر آب (أغسطس)، بينما بقية الشهور سيكون من الممتع أن يستطيع الشخص فيها قضاء مشاويره القريبة مشيا على الأقدام في حال وجود البنية التحتية المناسبة، لكن هذا يتطلب التزاما من المخططين العمرانيين ممثلا في وزارة الشؤون البلدية والقروية والأمانات والبلديات التابعة لها، بحيث تكون هنالك اشتراطات تحفز البينة التحتية للمشي عند تطوير الأحياء والشوارع والطرقات.
إنشرها