FINANCIAL TIMES

بندول العولمة يتأرجح جيئة وذهابا .. شبح يطارد العالم

 بندول العولمة يتأرجح جيئة وذهابا .. شبح يطارد العالم

شبح ما يطارد العالم، إنه شبح تفكك العولمة. بالتالي يستطيع ماركس إعادة صياغة العولمة في عصرنا الحالي. لكن إلى أي مدى ينبغي أن نكون خائفين من هذا الشبح؟
العولمة لها أبعاد كثيرة.
بالتالي تفكك العولمة له أبعاد أيضا. وللتمييز بينها، انظر إلى العصر الذهبي السابق للتكامل الاقتصادي، الذي يمكننا أن نؤرخ ذروته بين عامي 1989، عندما أدى سقوط الشيوعية إلى جعل الرأسمالية الديمقراطية العالمية أنموذجا للتنظيم الاقتصادي والسياسي دون منافس، و2008 حين سقط ذلك الأنموذج من عليائه على نحو مشين، عقب الأزمة المالية العالمية.
شهد هذان العقدان القصيران، في المقام الأول، عولمة المؤسسات المشرفة على الاقتصاد العالمي. فقط تذكر الطرق الكثيرة التي فتحت بها الاقتصادات الوطنية أبوابها على بعضها من خلال مجموعة مشتركة من القواعد والقرارات. دخلت سوق الاتحاد الأوروبي الواحدة حيز التنفيذ في عام 1993.
وبدأت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا" في عام 1994. وتأسست منظمة التجارة العالمية في عام 1995. وبدأ العمل باليورو في عام 1999. وفي عام 2001 تم قبول الصين في منظمة التجارة العالمية.
كل هذه الروابط الراسخة ربطت الاقتصادات الوطنية معا أكثر من أي وقت مضى. هذا البعد الثاني للعولمة - تجلياتها في التغيرات الاقتصادية على أرض الواقع - يتضح في النمو السنوي في تجارة البضائع العالمية، مقارنة بنمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وكذلك النسبة بين الاثنين. وكانت هذه النسبة مرتفعة بشكل خاص في التسعينيات وعام 2000، ما يعكس النمو السريع للصادرات والواردات بوصفها حصة من مجمل النشاط الاقتصادي في جميع أنحاء العالم.
التجارة لم تنمو فقط في حجمها، ولكن أيضا في تكوينها وطبيعتها. منذ جيل مضى كانت معظم التجارة في المواد الخام والمنتجات الاستهلاكية النهائية.
اليوم اﻟﺟزء الأكبر هو ﻣدﺧﻼت وسيطة داخل اﻟﻘﺎرة، أو ﻓﻲ ﺳﻼﺳل القيمة اﻟﺗﻲ ﺗﻣﺗد عبر العالم.
بعيدا عن السلع، شهدت تجارة الخدمات العالمية نموا سريعا وهي تتهيأ لدفعة جديدة في الوقت الذي تعمل فيه التكنولوجيا على جعل تفاعل الناس عبر حاجز الجغرافيا واللغة أسهل من أي وقت مضى.
التمويل الدولي زاد بسرعة تحبس الأنفاس. وهو يتتبع أسهم المطالبات المالية عبر الحدود، التي تضاعفت تقريبا (بالدولار الأمريكي) في الفترة من 1989 إلى 2000، ثم ازدادت ثلاثة أضعاف لتصل إلى 30 تريليون دولار قبل الأزمة.
وأخيرا، شهدت هذه الفترة عولمة في المواقف السياسية بين السياسيين والسكان على حد سواء.
المنتمون إلى يسار الوسط، على وجه الخصوص، تبنوا العولمة والانفتاح وتحرير السوق، كما رأينا في "الطريق الثالث" لتوني بلير وبيل كلينتون وغيرهما من القادة. وأصبحت المجموعة التي نشأت في أوروبا إبان هذه الفترة معروفة بـ "جيل إيزي جيت"؛ وهي أول من اعتبر السفر الجوي الرخيص في جميع أنحاء القارة أمرا مسلما به.
ربما يبدو الأمر كما لو أن كل هذا تم إيقافه في عام 2008. وهذا ليس صحيحا تماما. صحيح أن المظاهر الاقتصادية للعولمة جمدت.
فلأول مرة منذ عقود فشل نمو التجارة في تجاوز النمو الاقتصادي العام لعدد من السنوات على التوالي.
وتوقفت الأرصدة المالية عن النمو؛ وأعيدت كثير من الأموال بسبب تدفق أموال جديدة عبر الحدود. لكن يمكننا أن نرى اليوم أنها في حد ذاتها، توابع دورية للأزمة. وكان العجز في التجاري إلى حد كبير في السلع الرأسمالية، ما يعكس نمو الاستثمار المخيب للآمال في الاقتصادات الغنية على مدى زمن طويل خلال فترة الانتعاش.
وهذا لا يعني أن منطق تكثيف النشاط الاقتصادي عبر الحدود قد زال بصورة دائمة. في الواقع شهد نموا في عام 2017.
استمرت العولمة المؤسسية أيضا على قدم وساق في السنوات التي تلت عام 2008.
وقعت الولايات المتحدة شراكة عبر المحيط الهادئ مع 11 بلد من بلدان حوض المحيط الهادئ. وتحرك معظم أوروبا باتجاه تشكيل اتحاد مصرفي واتحاد لأسواق رأس المال. أطلقت الصين مصرف إنمائي متعدد الأطراف ورؤية الحزام والطريق.
كان عام 2016 بمثابة نقطة التحول في العولمة المؤسسية. كان التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد "أميركا أولا" ترمب بمنزلة الضربة الموجعة للنظام المؤسسي للاقتصاد المعولم. يسعى ترمب بشكل علني إلى تقويض المؤسسات متعددة الأطراف. ويتظاهر مؤيدو خروج بريطانيا بالسعي إلى خدمة التجارة العالمية، لكن السياسات التي يدعمونها ترقى إلى سياسات إقامة الحواجز أمام النشاط الاقتصادي عبر الحدود.
في الوقت نفسه، تعهد آخرون بحماية النظام الاقتصادي متعدد الأطراف والعولمة التي تدعمه.
وواصل 11 بلدا شراكة التجارة عبر الأطلسي بعدما سحب ترمب الولايات المتحدة منها. وأبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقيات تجارة حرة مع اليابان وكندا، وهو بصدد التفاوض مع آخرين.
بعد صدمة عام 2016، القوى السياسية المؤيدة للعولمة حشدت قواها للدفاع عنها.
هذا يعني أن ما سيكون حاسما هو البعد الثالث: عولمة القلوب والعقول. ما تجلى في عام 2016 هو أن مجموعات كبيرة من الناخبين قد انقلبت ضد أنموذج العولمة وكل ما يرتبط به. في الوقت نفسه، يكثف آخرون دعمهم لما يرون الآن أنه شيء معرض لخطر أن يخسروه. هذا الاستقطاب واضح في جميع البلدان تقريبا. مستقبل العولمة - من الناحية المؤسسية والاقتصادية - يتوقف على أي جانب تكون له الغلبة.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES